أثارت عقوبة الإعدام منذ القدم والى اليوم, بدرجات, ومن منطلقات مختلفة ومتفاوتة, جدلا حول طبيعتها وضرورتها والحالات التي تستوجب تطبيقها. لقد كان، لبشاعة ووحشية تنفيذها, معارضة قوية من رجال الفكر والفلاسفة,
قديما, أكثر بكثير من معارضتهم واستنكارهم لوجودها كعقوبة. فقد كانت العقوبات, بشتى أنواعها تتصف بالقسوة المفرطة, وتتوخى إنزال اشد أنواع الأذى والتنكيل والإيلام الجسدي والمعنوي بالمحكوم عليه. وحديثا لم يتوقف الاستنكار على أساليب تطبيقها, بل تعداه للمطالبة بإلغائها نهائيا كعقوبة. ويسوق معارضوها حججا عديدة مدعومة بالوقائع القديم منها والحديث, مقابل حجج من تبقى من مؤيديها. وهذا ما سنشير لبعضه في السطور التالية.
طبقت مختلف الحضارات , بالمعنى الواسع للكلمة, عبر التاريخ عقوبة الإعدام. وبطرق مختلفة. ففي المجتمعات البدائية, قبل نشوء الدولة حتى بمعناها البدائي, كان يسود الثأر العائلي أو الفردي, وبعد نشوء الحاضرة Cité ثم الدولة, بدأ نوع من التنظيم للثأر "الإعدام". فقد كان يتطلب تثبيت النظام العام, السياسي والديني, التوسع في اللجوء إلى الإعدام.
في مصر الفرعونية كان التوسع في تطبيق الإعدام يتبع مراحل الاضطراب, ومراحل تثبيت وترسيخ دعائم الدولة السياسية والاجتماعية. ففي مراحل استقرار السلطة كان ينحسر عدد الجرائم المعاقب عليها بالإعدام.
وفي بابل كانت عقوبة الإعدام تطال الجرائم الواقعة على الأشخاص وعلى الأموال. وفي تلك الحقبة بدأ لأول مرة مفهوم القصد الجرمي, يؤخذ في الاعتبار.
وفي اليونان القديمة ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد قال Protagoras بعدمية مبدأ الثّأر لأن الجريمة حين ترتكب لا يمكن منعها "لا يمكن منع ما قد تم فعله". فإذا فرضت الحاضرة عقوبات فلا يجب أن يكون هدفها الانتقام. ولكن فقط حماية نفسها. فمشروعية العقوبة تأتي من كونها تعمل على منع المجرم من العودة للجريمة, وهي أداة ردع قوية للمجرمين, وللمجرمين المحتملين . وحسب أرسطو كل إنسان سوي مسؤول عن أفعاله. والأفعال الفردية, الجيد منها والسيئ, لا تأخذ قيمها إلا ضمن الشروط الاجتماعية contexte . فالإنسان حيوان سياسي مدعو للعيش ضمن إطار الحاضرة. والعدالة منوط بها تامين حسن سير المبادلات بين أفراد هذه الحاضرة. ويعود للقاضي الجنائي فرض العقوبة العادلة لإصلاح ما قد أفسدته الجريمة لتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل ارتكابها. فالقانون الإغريقي قبل تقديم تعويض مادي للحياة الإنسانية, يعرضه القاتل على أهل المقتول. ولكن بقي الجدل عندهم حول نقطتين أساسيتين متعلقتين بجدوى الإعدام : هل يعيد إعدام القاتل الوضع إلى ما كان عليه قبل القتل, أي إعادة المقتول الى الحياة؟. أم يجب السير حسب قانون تالون talion العين بالعين والسن بالسن؟ فالعقوبة , وخاصة عقوبة الإعدام, تستجيب للالتزامين: تسوية وإصلاح الفعل ألجرمي, وحماية الحاضرة من تلك الأفعال. وهذا ما استوحاه لاحقا المشرع الروماني.
نظام عقوبة الإعدام في روما القديمة كان يميز بين المواطن الروماني وبين الأجنبي, والرقيق. فيعتبر حياة المواطن الروماني غالية جدا. مما يتطلب حماية قانونية فعالة لها. وفي أحيان كثيرة كان النطق بعقوبة الإعدام يستوجب أن يكون مباشرة من قبل الشعب نفسه . في حين لم يكن لحياة الأجنبي أو الرقيق هذه القيمة. فالرقيق يعتبر كشيء أو كسلعة. أما الأجانب فكانوا في نظر الرومان إما من الأشخاص الخاضعين للحماية, أو من رعايا الشعوب المغلوبة. وعليه فقد كانت عقوبة الإعدام استثنائية فيما يتعلق بالرومان أنفسهم. وقد منع القانون في حالة القتل ثأر عائلة المقتول من عائلة القاتل. الشيء الذي يدل على نضوج مفهوم المسؤولية الفردية وفصلها عن المسؤولية الجماعية. فالجاني وحده مسؤول عن جنايته.
وقد وضع سيسرون Cicéron ثمانية أنواع من العقوبات و ترك للقضاة النظر في تطبيقها : عقوبة الإعدام. الجلد. التشويه بترك آثار على الجسد لا تمحى. التحويل إلى رقيق. السجن. العزل. عقوبات مالية. عقوبة العار. وقد أُخذ بهذه القائمة للعقوبات خلال القرون التي تلت. وبعد قيام الإمبراطورية عرفت عقوبة الإعدام توسعا طال حتى المواطنين الرومان أنفسهم.
أما طرق تطبيق عقوبة الإعدام فقد كانت متعددة ومختلفة في درجة وحشيتها وبشاعتها. فالمدان بالخيانة العظمى يجبر على رمي نفسه من أعلي صخرة تاربيان Tarpéienne الواقعة في روما. وجريمة قتل الوالدين يعاقب عليها بعقوبة شديدة البشاعة. حيث يجلد القاتل حتى الإدماء, و يوضع بعدها في كيس من الجلد مع أربعة حيوانات: قرد: وكلب, وديك, وأفعى. ويربط عليهم, ويرمى الكيس بمحتوياته في البحر. وفي الحالات العادية المعاقب عليها بالإعدام تنفذ العقوبة بحد بالسيف, وخاصة فيما يتعلق بالمواطنين الرومان . كما كان يعاقب على الإساءة للرئيس الأول بتقطيع المحكوم بربطه بين4 أحصنة لتجري به باتجاهات متعاكسة وتمزق جسده.
في بداية العهد الإمبراطوري كانت عقوبة الإعدام تنفذ برمي المحكوم عليه إلى الحيوانات المفترسة في ساحة عامة أمام المشاهدين. وغالبية المحكومين بهذه العقوبة كانوا من معتنقي المسيحية الأوائل , وفي أواخر عهد الإمبراطورية تم إلغاء هذه الطريقة وكذلك الإعدام بالصلب. ولكنها بقيت تطبق على العبيد. أما المواطن الروماني, معتنق المسيحية, فتنفذ عقوبة إعدامه بقطع الرأس بحد السيف, كنوع من الامتياز.
في عهد الإمبراطورية المسيحية لم ينته التنكيل بالمحكوم عليهم بالإعدام, وإنما بالعكس زادت بشاعته. فقد نص قانون تيودسيان code de Théodosien ــ الذي جمع الدساتير الإمبراطورية الصادرة منذ عهد قسطنطين ــ على أنواع من التنكيل غير مسبوقة منها حرق الفارين من الجيش أحياء, وكذلك مزوري النقود, والشاذين جنسيا, ومرتكبي جرائم الاغتصاب. وعقوبة صب الرصاص المذوب في فم المدان. وقد كرست القوانين البيزنطية في القرون اللاحقة هذا النوع من العقوبات التنكيلية. وبقيت في التطبيق زمنا طويلا في روسيا.
في النظام الأوروبي القديم, أي النظام السابق على الثورة الفرنسية، والذي كان مبنيا في غالبيته على القيم المسيحية, بقي الملوك يعتبرون وكلاء أو ممثلي الله على الأرض, و كان النظام القضائي "الدنيوي" يطبق القانون المقدس حسب تفسير الكنيسة له. وبعد القرن الثامن عشر ظهر القانون الطبيعي الذي يعتبر الطبيعة نفسها مخلوقة, ومنظمة من قبل الله. ومن حيث القيمة فان القانون الإلهي والقانون الطبيعي متعادلان. مع التأشير إلى أن القانون الجنائي كان مطبوعا, أكثر من غيره من فروع القانون الأخرى, بالطابع المسيحي. وقد اظهر هذا القانون تحفظات عديدة بشان عقوبة الإعدام .
بعد القرن السابع عشر عرفت أوروبا ما يشبه الثورة القانونية جعلت من القانون الروماني الإمبراطوري , مجموعة جوستينيان Justinien , قانونا عاما في أوروبا اللاتينية, ليندمج فيه, في القرن الثامن عشر, مكون جديد هو القانون الروماني ـ الكنسي. ومنه أخذت عقوبة الإعدام مبرراتها النظرية : المنفعة العامة, و الجزاء الرادع. وكان اللاهوتيون ينظرون إلى هذه العقوبة على أنها استثناء. ويريدون من القضاة أن لا يتعسفوا بالنطق بها.
وقد توسع الحكم بالإعدام في القرن السابع عشر بشكل كبير ليعود وينحسر في أواسط القرن الثامن عشر. ومع ذلك فان القول بان عقوبة الإعدام استثناء كان لا يعني إلا الأحرار فقط أما الذين لا تنطبق عليهم هذه الصفة فتبقى العقوبة بحقهم على ما هي عليه.
وقد بدأ التشجيع على دفع التعويض المالي "دية في لغة اليوم". ويعتبر ذلك واجب على القاتل تجاه أهل الضحية وهؤلاء ملزمون بقبولها. وقد حددت القوانين الجرمانية , مثلما فعل قانون France-Saliens قيمة التعويض الذي يختلف باختلاف أصل وجنسية الضحية, إذا كان مواطنا رومانيا, أو شخصا حرا أو من العبيد أو أجنبا. فلكل صنف قيمة وتسعيرة خاصة به.
كان سان توماس داكين Saint Thomas d’Aquin يعتبر أن " الخطيئة وتهديد النظام العام يبرران عقوبة الإعدام" أما طائفة فودواز Secte de Vaudois XII فكانت تقول بان وصايا الله تأمر بعدم القتل : "يجب أن لا تقتل" وتعتبر إن الثأر ليس من اختصاص الإنسان وإنما الله وحده هو المختص به.
ومع اتساع تأثير ونفوذ القيم الدينية المسيحية أصبحت عقوبة الإعدام تطال, بشكل خاص, كل من يتجرأ على الإساءة للقوانين الدينية , أو يتهم بالاستهتار بها, أو عدم تطبيق و احترام تعاليمها. وكان تنفيذ العقوبة يتم بوحشية تفوق تلك المطبقة على المجرمين من مرتكبي الجرائم المروعة. ونورد هنا كمثال الحكم الذي أصدره قضاة محكمة ابيفيل Présidial Abbeville وأيدته محكمة باريس Parlement de Paris في 1/7/ 1766 على شاب في التاسعة عشر من عمره ويقضي, بعد تعليق تهم الكفر والإساءة للدين على صدره, بقطع لسانه ثم فصل رأسه عن جسده وإلقاء الرأس والجسد في محرقة مستعرة.
وقد لعبت محاكم التفتيش منذ القرن 18 دورا مرعبا في حياة المواطنين الذين كانوا يعتبرونها "أماكن الاضطهاد" ورمزا للشراسة والعنف في المجال الجزائي في النظام الأوروبي القديم. فكانت صلاحياتها مطلقة وتدخلاتها واسعة إلى ابعد الحدود.
ومع فلاسفة عصر التنوير Philosophie des Lumières بدأ النظر إلى عقوبة الإعدام بمنظار آخر وكثر التساؤل حول ضرورتها, وطرق تطبيقها.
فقد ربطها لوك بالقانون الطبيعي معتبرا انه في حالة الطبيعة كل شخص له سلطة قتل القاتل. ومن يعمل على سفح دم غيره فانه يسفح دمه هو أيضا. وحسب القانون الأساسي للطبيعة يجب حماية الإنسانية بكل الوسائل الممكنة. وإذا كان من غير الممكن حماية الكل فيجب أن تكون الأفضلية لحماية الأبرياء. Deux traités sur le gouvernement civil, II, 11 ).
و أدرج منتسكيو, محتذيا بلوك, عقوبة الإعدام بالقانون الطبيعي, " الكائن العاقل الذي يسبب لكائن عاقل آخر ألما حري به أن يتذوق الألم نفسه". (روح القوانين. 1,3). هذه العقوبة تعود إلى طبيعة الأشياء في الخير والشر. فالمواطن يستحق الموت إذا انتزع حياة غيره أو حاول انتزاعها. العقوبة كالدواء للمجتمع المريض. (المرجع السابق XII , 4 ). ولكنه كان ضد تطبيقها على الجرائم البسيطة المتعلقة بالأموال.
كما أن جان جاك روسو لم يكن ضد عقوبة الإعدام كعقوبة, وإنما ضد طرق تطبيقها المرفق بالتعذيب والتنكيل. وكذلك فولتير كان يطالب بتطبيقها طبقا للقانون. أما رجل القانون Servan فطالب بتضييق مجال تطبيق عقوبة الإعدام لتصبح عقوبة استثنائية. وقد تبنى لذلك لاحقا ديدوروت Diderot و دالمبار d’Alembert
مع ظهور كتاب بيكارا des délits et des peines عام 1776 ظهر تعريف جديد للعقوبة : " هدف العقوبات هو منع المجرم من أحداث أضرار جديدة, ومنع مرتكبي الأفعال الإجرامية إعادة ارتكاب أفعال مشابهة". وعليه يجب اختيار العقوبات التي تحدث ضغطا فعالا ومستمرا على أذهان الناس, ولكن أقل قسوة على جسد المجرم (المرجع المشار إليه XII ). مضيفا أن تاريخ القرون العشرين الماضية يبرهن على أن الخوف من عقوبة الإعدام لم تمنع المجرمين من تحدي المجتمع وارتكاب الفظائع. وعليه فان عقوبة الإعدام نفسها ليست بالنسبة للمجتمع إلا فظاعة أخرى إضافية.
وقد شجعت أفكار بيكار على قيام تيار قوي مطالب بإلغاء عقوبة الإعدام. ففي عام 1786 الغي ليوبولد الثاني Léopold II عقوبة الإعدام والتعذيب في توسكان Toscane , لأول مرة في التاريخ. وفي عام 1787 الغي جوزيف الثاني هذه العقوبة في النمسا. وألغتها العديد من الدول الأوربية في السنوات التي تلت ذلك كما عملت على إلغاء التعذيب.
الثورة الفرنسية
حسب الجمعية التأسيسية للثورة الفرنسية لعام 1789 ليست العقوبة انتقام عام ولا تعويض. وإنما مجرد إجراء من النظام الاجتماعي. ويجب أن تكون مفيدة, أي واقية, ورادعة, وعامة .
وفيما يتعلق بعقوبة الإعدام فقد تم اخذ حجج بيكارا من قبل عدد من الممثلين الفرنسيين في الجمعية التأسيسية في 30 ماي/ أيار 1791 لإلغائها, وطوروا تلك الحجج. و نذكر منهم بشكل خاص روبيسبير Robespierre بقوله " يمكنني البرهنة على 1ـ أن عقوبة الإعدام جوهريا ظالمة. 2 ـ إنها ليست الأكثر ردعا من بين العقوبات. وبأنها تزيد في نشر الجريمة أكثر مما تحد منها". عندما تكون قوة الجماعة, في المجتمع, مسلحة ضد فرد وحيد, فأي مبدأ من مبادئ العدالة يعطي الحق لهذا المجتمع بقتل هذا الفرد؟ وأية ضرورة تبرره؟ المنتصر الذي يعمل على قتل أعدائه هو بربري !! أليس المتهم الذي يدينه المجتمع عدو مهزوم, معدوم القدرة, وأكثر ضعفا من طفل أمام رجل قوي؟. وهكذا, في نظرالحقيقة والعدالة مسارح الموت هذه ليست إلا عمليات قتل جبان, وجرائم لم ترتكب من قبل أفراد وإنما من قبل الأمة بأكملها.
و في 1 حزيران/ جوان, في نفس الجمعية, بدأ ديبور Duport قوله بأنه سوف لا يدخل في المسالة الميتافيزقية métaphysique في معرفة هل للمجتمع الحق بإنزال عقوبة الإعدام. لا يستطيع الانسان إعطاء المجتمع حقا لا يملكه هو.. وعليه ليس لأحد الحق في إعدام نفسه. ومن جهة أخرى للمجتمع فعل كل ما هو ضروري للحفاظ على وجوده. وبأنه يستطيع, بالنتيجة, العقاب بالإعدام إذا كانت هذه العقوبة ضرورية. ولكن هل مجرد قاتل بسيط يمكنه أن يهدد بالخطر الكبير حياة مجتمع بأكمله. مضيفا: "لا نعلم, كما جاء في الإنجيل, بان الله قال بقتل قابيل (الذي قتل أخاه هابيل) ولكن أبقاه في عيون البشر جميعا سمة استنكار أو طرد من رحمة الله réprobation .
ولا يتسع المجال هنا لتفاصيل الحجج المقدمة. ولكن الغالبية في الجمعية المذكورة لم تقتنع بحجج اعضائها المطالبين بالغاء عقوبة الاعدام. وعليه فقد احتفظ القانون الجزائي الفرنسي لعام 1791 بهذه العقوبة. ولكنه عرفها تعريفا دقيقا مشترطا أن لا يرافق تنفيذها أي تعذيب للمحكوم عليه بها. على أن تنفذ بقطع رأس المحكوم بالإعدام ( code de 1791,I,1,3 . وهي الطريقة التي كانت تطبق قديما على النبلاء وحدهم كمحاباة). ومع القانون الجزائي لعام 1810 , قانون نابليون, الذي تميز بتشدده فيما يتعلق بالدفاع عن النظام العام والنظام السياسي. فان مجال تطبيق عقوبة الإعدام توسع أكثر مما كان عليه في قانون عام 1791 ( 36 حالة مقابل 32 حالة في قانون 1791).
عام 1830 ألغت الحكومة الفرنسية المؤقتة عقوبة الإعدام عن الجرائم ذات الطبيعة السياسة. وكانت التعديلات التي دافع عنها بشكل خاص فيكتور هيجو Victor Hugo في سبتمبر 1848 أمام الجمعية الوطنية Assemblé Nationale الهادفة إلى إلغاء هذه العقوبة نهائيا, لم تلق قبول الجمعية. لقد كان هيجو من اشد المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام. فقد استنكرها بشدة في مقدمة كتابه, "اليوم الأخير في حياة مدان" , عام 1829. وقصيدته المطولة «المشنقة l’Echafaud " تعتبر رائعة عصره . وفي دفاعه عن ابنه أمام محكمة جنايات السين la Seine أعلن مرافعته الشهيرة ضد الحكم بالموت. مستخدما في دفاعه عن إلغاء الإعدام. مثله مثل لامارتان Lamartine, موهبته الأدبية الخلاقة.
الاتفاقات الدولية
في 10/12/1948 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نصت مادته الثالثة على المبدأ القائل بحق كل إنسان بالحياة والحرية والأمن لشخصه. ونصت المادة 5 على تحريم خضوع الإنسان للتعذيب أو العقوبات الأليمة أو أي نوع من المعالات غير الإنسانية أو المهينة. ولم تلغ عقوبة الإعدام كعقوبة وإنما بعض طرق تنفيذها.
الاتفاقيات الأوروبية لحقوق الإنسان الموقعة في 4/11/1950 اعترفت للدولة باستعمال عقوبة الإعدام
"حق كل شخص بالحياة يكفله القانون. لا يجوز إنزال الموت بأحد إلا في حالة تنفيذ حكم بالإعدام صادر عن محكمة".
وقد جاء البرتوكول السادس لهذه الاتفاقية عام 1983 ليعلن " عقوبة الإعدام ملغاة. لا احد يعاقب بهذه العقوبة ولا بتنفيذها". و أصبحت أوروبا بعده( باستثناء صربيا و البوسنة ) القارة الوحيدة التي لا وجود فيها لعقوبة الإعدام.
ويوجد اليوم 109 دول أعضاء في الأمم المتحدة أعلنت إلغاء عقوبة الإعدام في تشريعاتها الداخلية. و 68 دولة أبقتها في تشريعاتها, مع تطبيق ضيق لها .
وتسعى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة للدعوة الدائمة للدول التي لم تلغ هذه العقوبة إلى وقف تنفيذه عمليات الإعدام. كما تقوم بحملة لوقف إعدام الأطفال.
ومن أكثر الدول تطبيقا لعقوبة الإعدام الصين, فقد نفذت, عام 1999 ,1263 حكما .. وفي عام 2000 نفذت الولايات المتحدة الأمريكية 85 حكما بالإعدام. و بين شهر كانون ثاني/جانفي, و حزيران/جوان 2001 نفذت 34 حكما.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى الدول التي ألغت عقوبة الإعدام, وتاريخ هذا الإلغاء. حيث يتبين إن الطليعة في ذلك لم تكن أوروبا, أو الدول التي تدعي الحضارة لنفسها دون غيرها:
الدولة تاريخ الإلغاء
فنزويلا 1863
البرتغال 1867
هولندا 1870
النرويج 1905
أكوادور 1906
أورغواي 1907
كولومبيا 1910
السويد 1921
سويسرا 1942
فرنسا 1981
المملكة المتحدة 1998
ولا يتسع المجال هنا لمتابعة التطورات التي عرفتها عقوبة الإعدام ومكانها في القوانين الجزائية المتعاقبة في الدول الأوربية وغيرها من الدول التي مازالت تعتمدها, وتلك التي ألغتها وإنما الإشارة إلى أن بعض النقاشات حولها كانت تدور بشكل أساسي حول: شرعيتها وفائدتها.
والواقع إن الجدل حول عقوبة الإعدام منذ القدم والى اليوم لم يتعد التساؤلات حول طبيعة العقوبة وحول جدوها والفائدة منها . فهل يجب قتل القاتل ؟ وهل موت المجرم يحمي المجتمع منه ويردع كل المجرمين المحتملين من ارتكاب الجرائم؟.لقد تفاوتت الردود على ذلك كما رأينا أعلاه .. فغالبية فلاسفة القرن الثامن عشر أدانت طرق تطبيق العقوبة , ورجال القانون والمشرعون كانوا يرون ضرورة بقائها. ويؤكدون على فائدة تطبيقها على الأقل في حالات محددة. وقد استمرت في كل التشريعات الأوربية طيلة القرن التاسع عشر و حتى نهاية القرن العشرين.
و يوازي ذلك, وعبر التاريخ, نشاطات تيار أنصار إلغاء هذه العقوبة بتطوير حججهم, منذ بيكارا والى اليوم , ومنها, انه :
ـ لا يمكن إصلاحها في حالة الخطأ القضائي . فالخطأ إنساني و غير معصوم منه حتى القضاء, مهما بلغ من درجات الكفاءة. ومهما كانت الإجراءات المتخذة, وخاصة في القضاء الجزائي مع وجود لجان المحلفين. وما أكثر الأحكام, حتى في درجاتها النهائية, المشوبة بالخطأ. فالإصلاحات القضائية, ومشاريع الإصلاحات, مستمرة في الدول الديمقراطية ــ وحدها بطبيعة الحال ــ وهذا اعتراف بعدم وجود نظام قضائي يحوز درجة الكمال. مضاف إليه عدم توفر الحرية الكاملة في العديد من الحالات لحق الدفاع, وكفاءة الدفاع نفسه. ويمكن إصلاح بعض أخطاء القضاء الواقعة على الأموال أو الحريات. ولكن لا يمكن إعادة الحياة لبريء تم إعدامه. وما أكثر الأمثلة, المعروف منها, على ذلك في تاريخ القضاء قديما وحديثا. من حيث الشرعية يعتبر البعض إن المجتمع لم يمنح الحياة للإنسان وبالتالي ليس من حقه انتزاعها.
ـ لا تتلاءم مع ما وصلت إليه الإنسانية في القرن الواحد والعشرين من قيم ومفاهيم. وما توصلت إليه العلوم الجنائية والقانونية من تطور, وإيجاد البدائل العصرية للحفاظ على المجتمعات والنظام العام. حيث لم يعد مقبولا تطبيق عقوبة المماثلة, قانون تالون loi talion ", العين بالعين والسن بالسن" الذي يصدم المشاعر ويحط من القيمة الكرامة الإنسانية و طرح بتيون Pétion في اليوم نفسه أسئلة منها :هل للعدالة, بقسوتها, الحكم على إنسان بحرمانه من حقه في الحياة؟ هل للمجتمع هذا الحق على احد أعضائه؟ هل تفرض المصلحة العامة مثل هذا القربان البشع ؟ .
قديما, أكثر بكثير من معارضتهم واستنكارهم لوجودها كعقوبة. فقد كانت العقوبات, بشتى أنواعها تتصف بالقسوة المفرطة, وتتوخى إنزال اشد أنواع الأذى والتنكيل والإيلام الجسدي والمعنوي بالمحكوم عليه. وحديثا لم يتوقف الاستنكار على أساليب تطبيقها, بل تعداه للمطالبة بإلغائها نهائيا كعقوبة. ويسوق معارضوها حججا عديدة مدعومة بالوقائع القديم منها والحديث, مقابل حجج من تبقى من مؤيديها. وهذا ما سنشير لبعضه في السطور التالية.
طبقت مختلف الحضارات , بالمعنى الواسع للكلمة, عبر التاريخ عقوبة الإعدام. وبطرق مختلفة. ففي المجتمعات البدائية, قبل نشوء الدولة حتى بمعناها البدائي, كان يسود الثأر العائلي أو الفردي, وبعد نشوء الحاضرة Cité ثم الدولة, بدأ نوع من التنظيم للثأر "الإعدام". فقد كان يتطلب تثبيت النظام العام, السياسي والديني, التوسع في اللجوء إلى الإعدام.
في مصر الفرعونية كان التوسع في تطبيق الإعدام يتبع مراحل الاضطراب, ومراحل تثبيت وترسيخ دعائم الدولة السياسية والاجتماعية. ففي مراحل استقرار السلطة كان ينحسر عدد الجرائم المعاقب عليها بالإعدام.
وفي بابل كانت عقوبة الإعدام تطال الجرائم الواقعة على الأشخاص وعلى الأموال. وفي تلك الحقبة بدأ لأول مرة مفهوم القصد الجرمي, يؤخذ في الاعتبار.
وفي اليونان القديمة ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد قال Protagoras بعدمية مبدأ الثّأر لأن الجريمة حين ترتكب لا يمكن منعها "لا يمكن منع ما قد تم فعله". فإذا فرضت الحاضرة عقوبات فلا يجب أن يكون هدفها الانتقام. ولكن فقط حماية نفسها. فمشروعية العقوبة تأتي من كونها تعمل على منع المجرم من العودة للجريمة, وهي أداة ردع قوية للمجرمين, وللمجرمين المحتملين . وحسب أرسطو كل إنسان سوي مسؤول عن أفعاله. والأفعال الفردية, الجيد منها والسيئ, لا تأخذ قيمها إلا ضمن الشروط الاجتماعية contexte . فالإنسان حيوان سياسي مدعو للعيش ضمن إطار الحاضرة. والعدالة منوط بها تامين حسن سير المبادلات بين أفراد هذه الحاضرة. ويعود للقاضي الجنائي فرض العقوبة العادلة لإصلاح ما قد أفسدته الجريمة لتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل ارتكابها. فالقانون الإغريقي قبل تقديم تعويض مادي للحياة الإنسانية, يعرضه القاتل على أهل المقتول. ولكن بقي الجدل عندهم حول نقطتين أساسيتين متعلقتين بجدوى الإعدام : هل يعيد إعدام القاتل الوضع إلى ما كان عليه قبل القتل, أي إعادة المقتول الى الحياة؟. أم يجب السير حسب قانون تالون talion العين بالعين والسن بالسن؟ فالعقوبة , وخاصة عقوبة الإعدام, تستجيب للالتزامين: تسوية وإصلاح الفعل ألجرمي, وحماية الحاضرة من تلك الأفعال. وهذا ما استوحاه لاحقا المشرع الروماني.
نظام عقوبة الإعدام في روما القديمة كان يميز بين المواطن الروماني وبين الأجنبي, والرقيق. فيعتبر حياة المواطن الروماني غالية جدا. مما يتطلب حماية قانونية فعالة لها. وفي أحيان كثيرة كان النطق بعقوبة الإعدام يستوجب أن يكون مباشرة من قبل الشعب نفسه . في حين لم يكن لحياة الأجنبي أو الرقيق هذه القيمة. فالرقيق يعتبر كشيء أو كسلعة. أما الأجانب فكانوا في نظر الرومان إما من الأشخاص الخاضعين للحماية, أو من رعايا الشعوب المغلوبة. وعليه فقد كانت عقوبة الإعدام استثنائية فيما يتعلق بالرومان أنفسهم. وقد منع القانون في حالة القتل ثأر عائلة المقتول من عائلة القاتل. الشيء الذي يدل على نضوج مفهوم المسؤولية الفردية وفصلها عن المسؤولية الجماعية. فالجاني وحده مسؤول عن جنايته.
وقد وضع سيسرون Cicéron ثمانية أنواع من العقوبات و ترك للقضاة النظر في تطبيقها : عقوبة الإعدام. الجلد. التشويه بترك آثار على الجسد لا تمحى. التحويل إلى رقيق. السجن. العزل. عقوبات مالية. عقوبة العار. وقد أُخذ بهذه القائمة للعقوبات خلال القرون التي تلت. وبعد قيام الإمبراطورية عرفت عقوبة الإعدام توسعا طال حتى المواطنين الرومان أنفسهم.
أما طرق تطبيق عقوبة الإعدام فقد كانت متعددة ومختلفة في درجة وحشيتها وبشاعتها. فالمدان بالخيانة العظمى يجبر على رمي نفسه من أعلي صخرة تاربيان Tarpéienne الواقعة في روما. وجريمة قتل الوالدين يعاقب عليها بعقوبة شديدة البشاعة. حيث يجلد القاتل حتى الإدماء, و يوضع بعدها في كيس من الجلد مع أربعة حيوانات: قرد: وكلب, وديك, وأفعى. ويربط عليهم, ويرمى الكيس بمحتوياته في البحر. وفي الحالات العادية المعاقب عليها بالإعدام تنفذ العقوبة بحد بالسيف, وخاصة فيما يتعلق بالمواطنين الرومان . كما كان يعاقب على الإساءة للرئيس الأول بتقطيع المحكوم بربطه بين4 أحصنة لتجري به باتجاهات متعاكسة وتمزق جسده.
في بداية العهد الإمبراطوري كانت عقوبة الإعدام تنفذ برمي المحكوم عليه إلى الحيوانات المفترسة في ساحة عامة أمام المشاهدين. وغالبية المحكومين بهذه العقوبة كانوا من معتنقي المسيحية الأوائل , وفي أواخر عهد الإمبراطورية تم إلغاء هذه الطريقة وكذلك الإعدام بالصلب. ولكنها بقيت تطبق على العبيد. أما المواطن الروماني, معتنق المسيحية, فتنفذ عقوبة إعدامه بقطع الرأس بحد السيف, كنوع من الامتياز.
في عهد الإمبراطورية المسيحية لم ينته التنكيل بالمحكوم عليهم بالإعدام, وإنما بالعكس زادت بشاعته. فقد نص قانون تيودسيان code de Théodosien ــ الذي جمع الدساتير الإمبراطورية الصادرة منذ عهد قسطنطين ــ على أنواع من التنكيل غير مسبوقة منها حرق الفارين من الجيش أحياء, وكذلك مزوري النقود, والشاذين جنسيا, ومرتكبي جرائم الاغتصاب. وعقوبة صب الرصاص المذوب في فم المدان. وقد كرست القوانين البيزنطية في القرون اللاحقة هذا النوع من العقوبات التنكيلية. وبقيت في التطبيق زمنا طويلا في روسيا.
في النظام الأوروبي القديم, أي النظام السابق على الثورة الفرنسية، والذي كان مبنيا في غالبيته على القيم المسيحية, بقي الملوك يعتبرون وكلاء أو ممثلي الله على الأرض, و كان النظام القضائي "الدنيوي" يطبق القانون المقدس حسب تفسير الكنيسة له. وبعد القرن الثامن عشر ظهر القانون الطبيعي الذي يعتبر الطبيعة نفسها مخلوقة, ومنظمة من قبل الله. ومن حيث القيمة فان القانون الإلهي والقانون الطبيعي متعادلان. مع التأشير إلى أن القانون الجنائي كان مطبوعا, أكثر من غيره من فروع القانون الأخرى, بالطابع المسيحي. وقد اظهر هذا القانون تحفظات عديدة بشان عقوبة الإعدام .
بعد القرن السابع عشر عرفت أوروبا ما يشبه الثورة القانونية جعلت من القانون الروماني الإمبراطوري , مجموعة جوستينيان Justinien , قانونا عاما في أوروبا اللاتينية, ليندمج فيه, في القرن الثامن عشر, مكون جديد هو القانون الروماني ـ الكنسي. ومنه أخذت عقوبة الإعدام مبرراتها النظرية : المنفعة العامة, و الجزاء الرادع. وكان اللاهوتيون ينظرون إلى هذه العقوبة على أنها استثناء. ويريدون من القضاة أن لا يتعسفوا بالنطق بها.
وقد توسع الحكم بالإعدام في القرن السابع عشر بشكل كبير ليعود وينحسر في أواسط القرن الثامن عشر. ومع ذلك فان القول بان عقوبة الإعدام استثناء كان لا يعني إلا الأحرار فقط أما الذين لا تنطبق عليهم هذه الصفة فتبقى العقوبة بحقهم على ما هي عليه.
وقد بدأ التشجيع على دفع التعويض المالي "دية في لغة اليوم". ويعتبر ذلك واجب على القاتل تجاه أهل الضحية وهؤلاء ملزمون بقبولها. وقد حددت القوانين الجرمانية , مثلما فعل قانون France-Saliens قيمة التعويض الذي يختلف باختلاف أصل وجنسية الضحية, إذا كان مواطنا رومانيا, أو شخصا حرا أو من العبيد أو أجنبا. فلكل صنف قيمة وتسعيرة خاصة به.
كان سان توماس داكين Saint Thomas d’Aquin يعتبر أن " الخطيئة وتهديد النظام العام يبرران عقوبة الإعدام" أما طائفة فودواز Secte de Vaudois XII فكانت تقول بان وصايا الله تأمر بعدم القتل : "يجب أن لا تقتل" وتعتبر إن الثأر ليس من اختصاص الإنسان وإنما الله وحده هو المختص به.
ومع اتساع تأثير ونفوذ القيم الدينية المسيحية أصبحت عقوبة الإعدام تطال, بشكل خاص, كل من يتجرأ على الإساءة للقوانين الدينية , أو يتهم بالاستهتار بها, أو عدم تطبيق و احترام تعاليمها. وكان تنفيذ العقوبة يتم بوحشية تفوق تلك المطبقة على المجرمين من مرتكبي الجرائم المروعة. ونورد هنا كمثال الحكم الذي أصدره قضاة محكمة ابيفيل Présidial Abbeville وأيدته محكمة باريس Parlement de Paris في 1/7/ 1766 على شاب في التاسعة عشر من عمره ويقضي, بعد تعليق تهم الكفر والإساءة للدين على صدره, بقطع لسانه ثم فصل رأسه عن جسده وإلقاء الرأس والجسد في محرقة مستعرة.
وقد لعبت محاكم التفتيش منذ القرن 18 دورا مرعبا في حياة المواطنين الذين كانوا يعتبرونها "أماكن الاضطهاد" ورمزا للشراسة والعنف في المجال الجزائي في النظام الأوروبي القديم. فكانت صلاحياتها مطلقة وتدخلاتها واسعة إلى ابعد الحدود.
ومع فلاسفة عصر التنوير Philosophie des Lumières بدأ النظر إلى عقوبة الإعدام بمنظار آخر وكثر التساؤل حول ضرورتها, وطرق تطبيقها.
فقد ربطها لوك بالقانون الطبيعي معتبرا انه في حالة الطبيعة كل شخص له سلطة قتل القاتل. ومن يعمل على سفح دم غيره فانه يسفح دمه هو أيضا. وحسب القانون الأساسي للطبيعة يجب حماية الإنسانية بكل الوسائل الممكنة. وإذا كان من غير الممكن حماية الكل فيجب أن تكون الأفضلية لحماية الأبرياء. Deux traités sur le gouvernement civil, II, 11 ).
و أدرج منتسكيو, محتذيا بلوك, عقوبة الإعدام بالقانون الطبيعي, " الكائن العاقل الذي يسبب لكائن عاقل آخر ألما حري به أن يتذوق الألم نفسه". (روح القوانين. 1,3). هذه العقوبة تعود إلى طبيعة الأشياء في الخير والشر. فالمواطن يستحق الموت إذا انتزع حياة غيره أو حاول انتزاعها. العقوبة كالدواء للمجتمع المريض. (المرجع السابق XII , 4 ). ولكنه كان ضد تطبيقها على الجرائم البسيطة المتعلقة بالأموال.
كما أن جان جاك روسو لم يكن ضد عقوبة الإعدام كعقوبة, وإنما ضد طرق تطبيقها المرفق بالتعذيب والتنكيل. وكذلك فولتير كان يطالب بتطبيقها طبقا للقانون. أما رجل القانون Servan فطالب بتضييق مجال تطبيق عقوبة الإعدام لتصبح عقوبة استثنائية. وقد تبنى لذلك لاحقا ديدوروت Diderot و دالمبار d’Alembert
مع ظهور كتاب بيكارا des délits et des peines عام 1776 ظهر تعريف جديد للعقوبة : " هدف العقوبات هو منع المجرم من أحداث أضرار جديدة, ومنع مرتكبي الأفعال الإجرامية إعادة ارتكاب أفعال مشابهة". وعليه يجب اختيار العقوبات التي تحدث ضغطا فعالا ومستمرا على أذهان الناس, ولكن أقل قسوة على جسد المجرم (المرجع المشار إليه XII ). مضيفا أن تاريخ القرون العشرين الماضية يبرهن على أن الخوف من عقوبة الإعدام لم تمنع المجرمين من تحدي المجتمع وارتكاب الفظائع. وعليه فان عقوبة الإعدام نفسها ليست بالنسبة للمجتمع إلا فظاعة أخرى إضافية.
وقد شجعت أفكار بيكار على قيام تيار قوي مطالب بإلغاء عقوبة الإعدام. ففي عام 1786 الغي ليوبولد الثاني Léopold II عقوبة الإعدام والتعذيب في توسكان Toscane , لأول مرة في التاريخ. وفي عام 1787 الغي جوزيف الثاني هذه العقوبة في النمسا. وألغتها العديد من الدول الأوربية في السنوات التي تلت ذلك كما عملت على إلغاء التعذيب.
الثورة الفرنسية
حسب الجمعية التأسيسية للثورة الفرنسية لعام 1789 ليست العقوبة انتقام عام ولا تعويض. وإنما مجرد إجراء من النظام الاجتماعي. ويجب أن تكون مفيدة, أي واقية, ورادعة, وعامة .
وفيما يتعلق بعقوبة الإعدام فقد تم اخذ حجج بيكارا من قبل عدد من الممثلين الفرنسيين في الجمعية التأسيسية في 30 ماي/ أيار 1791 لإلغائها, وطوروا تلك الحجج. و نذكر منهم بشكل خاص روبيسبير Robespierre بقوله " يمكنني البرهنة على 1ـ أن عقوبة الإعدام جوهريا ظالمة. 2 ـ إنها ليست الأكثر ردعا من بين العقوبات. وبأنها تزيد في نشر الجريمة أكثر مما تحد منها". عندما تكون قوة الجماعة, في المجتمع, مسلحة ضد فرد وحيد, فأي مبدأ من مبادئ العدالة يعطي الحق لهذا المجتمع بقتل هذا الفرد؟ وأية ضرورة تبرره؟ المنتصر الذي يعمل على قتل أعدائه هو بربري !! أليس المتهم الذي يدينه المجتمع عدو مهزوم, معدوم القدرة, وأكثر ضعفا من طفل أمام رجل قوي؟. وهكذا, في نظرالحقيقة والعدالة مسارح الموت هذه ليست إلا عمليات قتل جبان, وجرائم لم ترتكب من قبل أفراد وإنما من قبل الأمة بأكملها.
و في 1 حزيران/ جوان, في نفس الجمعية, بدأ ديبور Duport قوله بأنه سوف لا يدخل في المسالة الميتافيزقية métaphysique في معرفة هل للمجتمع الحق بإنزال عقوبة الإعدام. لا يستطيع الانسان إعطاء المجتمع حقا لا يملكه هو.. وعليه ليس لأحد الحق في إعدام نفسه. ومن جهة أخرى للمجتمع فعل كل ما هو ضروري للحفاظ على وجوده. وبأنه يستطيع, بالنتيجة, العقاب بالإعدام إذا كانت هذه العقوبة ضرورية. ولكن هل مجرد قاتل بسيط يمكنه أن يهدد بالخطر الكبير حياة مجتمع بأكمله. مضيفا: "لا نعلم, كما جاء في الإنجيل, بان الله قال بقتل قابيل (الذي قتل أخاه هابيل) ولكن أبقاه في عيون البشر جميعا سمة استنكار أو طرد من رحمة الله réprobation .
ولا يتسع المجال هنا لتفاصيل الحجج المقدمة. ولكن الغالبية في الجمعية المذكورة لم تقتنع بحجج اعضائها المطالبين بالغاء عقوبة الاعدام. وعليه فقد احتفظ القانون الجزائي الفرنسي لعام 1791 بهذه العقوبة. ولكنه عرفها تعريفا دقيقا مشترطا أن لا يرافق تنفيذها أي تعذيب للمحكوم عليه بها. على أن تنفذ بقطع رأس المحكوم بالإعدام ( code de 1791,I,1,3 . وهي الطريقة التي كانت تطبق قديما على النبلاء وحدهم كمحاباة). ومع القانون الجزائي لعام 1810 , قانون نابليون, الذي تميز بتشدده فيما يتعلق بالدفاع عن النظام العام والنظام السياسي. فان مجال تطبيق عقوبة الإعدام توسع أكثر مما كان عليه في قانون عام 1791 ( 36 حالة مقابل 32 حالة في قانون 1791).
عام 1830 ألغت الحكومة الفرنسية المؤقتة عقوبة الإعدام عن الجرائم ذات الطبيعة السياسة. وكانت التعديلات التي دافع عنها بشكل خاص فيكتور هيجو Victor Hugo في سبتمبر 1848 أمام الجمعية الوطنية Assemblé Nationale الهادفة إلى إلغاء هذه العقوبة نهائيا, لم تلق قبول الجمعية. لقد كان هيجو من اشد المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام. فقد استنكرها بشدة في مقدمة كتابه, "اليوم الأخير في حياة مدان" , عام 1829. وقصيدته المطولة «المشنقة l’Echafaud " تعتبر رائعة عصره . وفي دفاعه عن ابنه أمام محكمة جنايات السين la Seine أعلن مرافعته الشهيرة ضد الحكم بالموت. مستخدما في دفاعه عن إلغاء الإعدام. مثله مثل لامارتان Lamartine, موهبته الأدبية الخلاقة.
الاتفاقات الدولية
في 10/12/1948 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نصت مادته الثالثة على المبدأ القائل بحق كل إنسان بالحياة والحرية والأمن لشخصه. ونصت المادة 5 على تحريم خضوع الإنسان للتعذيب أو العقوبات الأليمة أو أي نوع من المعالات غير الإنسانية أو المهينة. ولم تلغ عقوبة الإعدام كعقوبة وإنما بعض طرق تنفيذها.
الاتفاقيات الأوروبية لحقوق الإنسان الموقعة في 4/11/1950 اعترفت للدولة باستعمال عقوبة الإعدام
"حق كل شخص بالحياة يكفله القانون. لا يجوز إنزال الموت بأحد إلا في حالة تنفيذ حكم بالإعدام صادر عن محكمة".
وقد جاء البرتوكول السادس لهذه الاتفاقية عام 1983 ليعلن " عقوبة الإعدام ملغاة. لا احد يعاقب بهذه العقوبة ولا بتنفيذها". و أصبحت أوروبا بعده( باستثناء صربيا و البوسنة ) القارة الوحيدة التي لا وجود فيها لعقوبة الإعدام.
ويوجد اليوم 109 دول أعضاء في الأمم المتحدة أعلنت إلغاء عقوبة الإعدام في تشريعاتها الداخلية. و 68 دولة أبقتها في تشريعاتها, مع تطبيق ضيق لها .
وتسعى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة للدعوة الدائمة للدول التي لم تلغ هذه العقوبة إلى وقف تنفيذه عمليات الإعدام. كما تقوم بحملة لوقف إعدام الأطفال.
ومن أكثر الدول تطبيقا لعقوبة الإعدام الصين, فقد نفذت, عام 1999 ,1263 حكما .. وفي عام 2000 نفذت الولايات المتحدة الأمريكية 85 حكما بالإعدام. و بين شهر كانون ثاني/جانفي, و حزيران/جوان 2001 نفذت 34 حكما.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى الدول التي ألغت عقوبة الإعدام, وتاريخ هذا الإلغاء. حيث يتبين إن الطليعة في ذلك لم تكن أوروبا, أو الدول التي تدعي الحضارة لنفسها دون غيرها:
الدولة تاريخ الإلغاء
فنزويلا 1863
البرتغال 1867
هولندا 1870
النرويج 1905
أكوادور 1906
أورغواي 1907
كولومبيا 1910
السويد 1921
سويسرا 1942
فرنسا 1981
المملكة المتحدة 1998
ولا يتسع المجال هنا لمتابعة التطورات التي عرفتها عقوبة الإعدام ومكانها في القوانين الجزائية المتعاقبة في الدول الأوربية وغيرها من الدول التي مازالت تعتمدها, وتلك التي ألغتها وإنما الإشارة إلى أن بعض النقاشات حولها كانت تدور بشكل أساسي حول: شرعيتها وفائدتها.
والواقع إن الجدل حول عقوبة الإعدام منذ القدم والى اليوم لم يتعد التساؤلات حول طبيعة العقوبة وحول جدوها والفائدة منها . فهل يجب قتل القاتل ؟ وهل موت المجرم يحمي المجتمع منه ويردع كل المجرمين المحتملين من ارتكاب الجرائم؟.لقد تفاوتت الردود على ذلك كما رأينا أعلاه .. فغالبية فلاسفة القرن الثامن عشر أدانت طرق تطبيق العقوبة , ورجال القانون والمشرعون كانوا يرون ضرورة بقائها. ويؤكدون على فائدة تطبيقها على الأقل في حالات محددة. وقد استمرت في كل التشريعات الأوربية طيلة القرن التاسع عشر و حتى نهاية القرن العشرين.
و يوازي ذلك, وعبر التاريخ, نشاطات تيار أنصار إلغاء هذه العقوبة بتطوير حججهم, منذ بيكارا والى اليوم , ومنها, انه :
ـ لا يمكن إصلاحها في حالة الخطأ القضائي . فالخطأ إنساني و غير معصوم منه حتى القضاء, مهما بلغ من درجات الكفاءة. ومهما كانت الإجراءات المتخذة, وخاصة في القضاء الجزائي مع وجود لجان المحلفين. وما أكثر الأحكام, حتى في درجاتها النهائية, المشوبة بالخطأ. فالإصلاحات القضائية, ومشاريع الإصلاحات, مستمرة في الدول الديمقراطية ــ وحدها بطبيعة الحال ــ وهذا اعتراف بعدم وجود نظام قضائي يحوز درجة الكمال. مضاف إليه عدم توفر الحرية الكاملة في العديد من الحالات لحق الدفاع, وكفاءة الدفاع نفسه. ويمكن إصلاح بعض أخطاء القضاء الواقعة على الأموال أو الحريات. ولكن لا يمكن إعادة الحياة لبريء تم إعدامه. وما أكثر الأمثلة, المعروف منها, على ذلك في تاريخ القضاء قديما وحديثا. من حيث الشرعية يعتبر البعض إن المجتمع لم يمنح الحياة للإنسان وبالتالي ليس من حقه انتزاعها.
ـ لا تتلاءم مع ما وصلت إليه الإنسانية في القرن الواحد والعشرين من قيم ومفاهيم. وما توصلت إليه العلوم الجنائية والقانونية من تطور, وإيجاد البدائل العصرية للحفاظ على المجتمعات والنظام العام. حيث لم يعد مقبولا تطبيق عقوبة المماثلة, قانون تالون loi talion ", العين بالعين والسن بالسن" الذي يصدم المشاعر ويحط من القيمة الكرامة الإنسانية و طرح بتيون Pétion في اليوم نفسه أسئلة منها :هل للعدالة, بقسوتها, الحكم على إنسان بحرمانه من حقه في الحياة؟ هل للمجتمع هذا الحق على احد أعضائه؟ هل تفرض المصلحة العامة مثل هذا القربان البشع ؟ .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire