vendredi 4 avril 2008

القتل بوسائل غير مادية

تنص معظم التشريعات الجنائية في العصر الحديث على جريمة القتل و تحدد عقوبتها و تدرسها كأقصى عقوبات الجرائم و أكثرها تعقيداً. و لأن كانت الجريمة و العقاب في القانون الجزائي تخضع لمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات (لا جريمة و لا عقوبة إلا بقانون) ذلك المبدأ الذي يخرج من نطاق تعريف الجريمة كل فعل لم يتم النص عليه كجريمة معترف بها في القانون , و كان لزاماً على تبني هذا المبدأ ان يتم احتواء كل فعل غير مشروع ضمن نصوص القانون الجزائي كي نضفي عليه صفة الجريمة و بالتالي يصبح هذا الفعل و فاعله عرضةً لتطبيق قانون الجنايات عليه و معاقبة فاعله.

بيد إن أقدم الجرائم الإنسانية يمكن ان نصنفها ضمن نطاق القتل و السرقة , و يكاد لا يخلو تشريع قديم من ذكر هاتين الجريمتين و تعريفهما و النص على عقاب ملائم لهما, و لكن تطور الحياة خلقت أصنافاً جديدة من الجرائم لم يكن العقل البشري قديما قادراً على تصورها أو ارتكابها, و من هذه الجرائم مثلاً: جريمة الاتجار بالمخدرات أو حمل سلاح دون رخصة أو الإفلاس التجاري الاحتيالي و هذا ما دفع فقهاء القانون في العصر الحديث إلى توسيع نطاق قاعدة شرعية الجرائم و العقوبات و ادخل إليها تلك الأفعال الغير مشروعة و البسها رداء الجريمة و نص على معاقبة فاعليها بأفضل العقاب.

و إن كان فقهاء القانون المتربصين دوماً لكل جديد في عالم الجريمة متفقون على الأغلب في تجريم الكثير من الجرائم التي خلقها التطور الفكري للإنسان , إلا إن هذا الاتفاق نادرا ما يتم الحصول عليه عندما ندخل في أعماق كل جريمة على حدة و نبدأ بدراستها كجريمة مستقلة نريد أن نحدد أركانها و صفاتها و صفة الشخص الذي قد يكون فاعلها أو ضحيتها.

فإذا ما شرعنا في دراسة أول جريمة قام القانونيون في العالم بدراستها و التي هي جريمة القتل , فسيتضح لنا ذلك الاختلاف جلياً واضحاً و لاسيما في تحديد الوسائل الممكنة في ارتكاب هذه الجريمة و تصورها.

عند البحث في عناصر الركن المادي لجريمة القتل نجدها تتألف من ثلاث عناصر و هي (الفعل – النتيجة – الرابطة السببية) إي انه كي تتم جريمة القتل يجب أن يكون هناك فعل اعتداء قام به الفاعل و قد يكون هذا الاعتداء قد تم بنشاط ايجابي, كمن يحمل سكيناً طيبة و يغرسها في صدر الضحية او ان يرمي المجني عليه من علو شاهق قاصداً تمزيقه و بالتالي قتله. و لا تثور أي مشكلة تذكر عند تحقيقنا في توافر عنصر الاعتداء إذا كان الفاعل قد نفذ اعتدائه على هذا النحو , بيد أن الجريمة لا تكون دائما تحت هذا التصنيف من السهولة فقد يكون نشاط الجاني ليس ايجابيا, فقد يمتنع الجاني عن القيام بأي فعل و يكون امتناعه هذا سباً في ارتكاب جريمة تؤدي نتائجها إلى إزهاق روح انسان. فلو ان ممرضة تشرف على رعاية مريض قابع في المستشفى و ينتظر العلاج, و أوكل إليها مهمة مراقبة المريض و إخطار الأطباء عن أي ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم, فامتنعت هذه الممرضة- قصداً بغرض القتل- عن إخطار الأطباء في الوقت المناسب فأدى ذلك إلى هلاك المريض و موته . فليس هناك ما يمنع من اعتبار الحالة جريمة قتل و الفعل هو الممرضة التي استخدمت نشاط سلبي في تنفيذ هذه الجريمة. و يسمى هذا في علم القانون بالنشاط السلبي و هو احد نوعي عنصر الفعل و هما (النشاط الايجابي و النشاط السلبي).

و في كلا الحالتين هناك جريمة قتل مقصودة ارتكبت بأحد النشاطين إما القيام بنشاط إيجابي بقصد قتل الضحية او عدم القيام بأي نشاط ايجابي بقصد قتل الضحية أيضا, و كلا النشاطين يملكان من الوسائل ما يكفي للقيام بأي جريمة قتل يمكن تصورها.

غير ان النشاط السلبي لم يكن من العناصر القديمة التي تؤلف فعل الاعتداء في جريمة القتل , و إنما انتبه إليها و درسها المتأخرين من فقهاء القانون, و رغم بعض الصعاب التي تطرحها مشكلة النشاط السلبي و عدم إجماع كل فقهاء القانون على اعتبارها كعنصر في جريمة القتل إلا إن الغالبية من الفقهاء قد أيقنوا بها و أعطوها حقها من الدراسة و التحليل,

بيد ان الخلاف الأبرز الذي ظهر بين الفقهاء لا يكمن حقيقةً في تحديد عنصر الاعتداء و تعريفه و إنما ظهرت مشكلة أخرى أكثر حساسية و نقاشاً من عنصر الاعتداء (الفعل) و هذا الخلاف تجلى بوضوح في الوسيلة الممكنة التي يمكن ان يقوم عليها هذا العنصر.

و المشكلة التي تطرح نفسها هنا, هل يمكن قيام فعل الاعتداء و بالتالي تحقق الركن المادي للجريمة بوسائل غير مادية؟

او بعبارة أخرى : هل يشترط لقيام جريمة القتل ان تتم بوسيلة مادية ام انه يمكن تصورها بوسائل غير مادية؟.

ان استخدام الوسائل المادية في القتل هو أكثر أساليب القتل شيوعاً و استخداماً , فأكثر القاتلين في العالم يفضلون استخدام العصي و السكاكين و المدافع و البنادق و الصواريخ و الحجارة و الحديد و الخشب و كل ما يمكن تصوره من وسائل مادية يفضي استخدامها بطرق معينة إلا إزهاق روح إنسان حي, و لكن هل يمكننا ان نتخيل قتل انسان من دون استخدام أي من هذه الوسائل المادية مطلقاً.

سنطرح هنا بعض الصور التي تستخدم وسائل غير مادية يؤدي استخدامها إلى موت إنسان حي.

كأن ترفع سماعة الهاتف طالباً شخصا لديه علة قلبية مستعصية فتنبئه كذباً بوفاة عائلته في حادث سير , فيتوقف قلب المجني عليه من صدمة النبأ فيموت, او قد يدخل احدهم إلى مسجد و ينشر كذباً عن نبا وجود قنبلة وضعها إرهابيون ضمن المسجد, فتثير الرعب في قلوب الناس و المصلين و يبحثون عن منفذ للهروب , فيقتل ما تيسر له منهم دوساً و اصطداماً.

ألا يعتبر الفاعل يا ترى قد قام بجريمة القتل هذه رغم انه لم يستخدم أي وسيلة مادية في تحقيق مأربه؟

لتوضيح هذه المشكلة سنستعرض التشريعات في هذا الصدد في بعض البلدان ثم نتجه لاستعراض رأي الفقهاء و التشريعات في سورية و في بعض الدول العربية.

في ألمانيا و سويسرا: غالبية الفقه الألماني و السويسري لا يفرقون في وسائل القتل بين استخدام الوسائل المادية كالطعن بالرماح و العصي و الرصاص و بين استخدام الوسائل غير المادية كالوسائل و الآثار النفسية في ارتكاب جرائم القتل . و يؤيدهم في ذلك معظم الفقهاء العرب.

في انكلترا: إن غالبية الفقه في انكلترا يميل إلى الاعتقاد بإمكانية وقوع جريمة القتل بوسائل غير مادية, و هم بذلك يعتمدون على استقرار الفقه القضائي عندهم في الكثير من السوابق القضائية على اعتبار إن هذا البلد يعتمد على السابقة القضائية precedents كمصدر من مصادر القانون الجزائي. و في مثالين عن السوابق القضائية في انكلترا يقدمهما الدكتور محمد الفاضل في كتابه الجرائم الواقعة على الأشخاص و الأموال يورد ما يلي:

في قضية توارز towers اعتدى المتهم على فتاة تحمل طفلا لم يتجاوز الشهر الخامس من العمر, و قد ارتاع الطفل من هذا المشهد فأصابه صدمة في جهازه العصبي و مات . و قد تم الحكم على الفاعل بجريمة القتل.

و في قضية هيوارد Hayward و خلاصة القضية ان هيوارد غضب من زوجته و بدأ يهددها و يتوعدها فسارعت الزوجة إلى الفرار فلحق بها الزوج على عرض الطريق و وقعت الزوجة مغشياً عليها فتركها الزوج بعد ان ركلها بقدمه على يدها اليسرى, و لما حاول بعض المارة إنهاض الزوجة تبين أنها متوفاة.

و في التقرير التشريحي تبين ان الركل لم يكن سبب الوفاة و انما تبين ان الزوجة كانت مصابة بغدة سعترية مزمنة peristent thymus gland في اسفل القلب بحيث ان أي إرهاق جسدي او معنوي تتعرض له قد يعرض حياتها للخطر كما جرى معها. و قد جاء في التوجيهات التي وجهها القاضي ريدلي رئيس المحكمة إلى هيئة المحلفين ان القتل يمكن ان يقع نتيجة الترويع و التهديد بالعنف مثلاً و ان كون المجني عليها مصابة بالغدة السعترية لا عبرة له سواء كان الجاني يعلم به أم لم يكن, ما دام فعل الاعتداء الذي قام به الفاعل كان سبب موت المجني عليها او انه عجّل في حصول هذا الموت. و جاءت نتيجة المحاكمة بمعاقبة الفاعل على جريمة قتل غير مقصود.

و كذلك يناقش الفقيه الانكليزي ستيفن Stephen هذا النوع من القتل و يقدم عدداً من الأمثلة يوازن فيها بين الوسائل المادية و غير المادية في ارتكاب جرائم القتل فيقول: لنفرض ان شخصاً أراد تعذيب آخر و قتله بحرمانه من النوم حتى أدى ذلك إلى وفاته. فما المانع من اعتبار هذه الواقعة جريمة قتل و اعتبار فاعلها قاتلاً؟

او لنفرض ان شيخاً مصاباً بضعف في القلب و يود احد ورثته من الطامعين ان يعجل في وفاته , فألقى عليه نبأ مفجع بقصد قتله, فأصيب الشيخ بسكتة قلبية و مات, أفليس في هذا جريمة قتل؟ او هل لو استخدم الجاني من اجل قتل المجني عليه وسيلة مادية أخرى . أولم يكن يحصل على نفس النتيجة؟

القتل بوسائل غير مادية في سوريا و الدول العربية التي تسير على نهجها:

إليكم بعض النصوص القانونية لبعض التشريعات العربية

المادة 533 من قانون العقوبات السوري:

“من قتل أنساناً قصداً عوقب بالأشغال الشاقة من خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة.”

و هذا نص مادة (149): من قانون الجزاء الكويتي

“من قتل نفسا عمدا يعاقب بالحبس المؤبد، ويجوز أن تضاف إليه غرامة لا تجاوز خمسة عشر ألف روبية.”

قانون العقوبات الأردني المؤقت رقم (33) للعام 2002

المادة (326) :

“من قتل إنساناً قصداً عوقب بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة .”

نلاحظ من نصوص هذه المواد إن كل التشريعات العربية قد نصت على عقوبة القتل و لم تتصدى أي منهم على تحديد الوسيلة التي يمكن ان يقع فيها هذا القتل, و يستفاد من تلك النصوص انه ليس هناك ما يمنع قانوناً ان يقع القتل بأي وسيلة كانت سواء مادية أم معنوية , و عن ارتكاب جريمة القتل بوسائل غير مادية لا يمنع أو يقطع علاقة السببية بين الفعل و النتيجة بخلاف ما اتجه إليه بعض الفقهاء الفرنسيين الذين كان لهم اتجاه مخالف سنسعى على ذكره في الفقرة التالية, هذا وقد أيد الموقف الفرنسي بعض الفقهاء العرب مع الاختلاف فيما بينهم في درجة التأييد أو مساره

الوسائل الغير مادية في فرنسا: احد اكبر الفقهاء الفرنسيين روتر Rauter كان يرى بإمكانية قيام القتل بوسائل غير مادية كوسائل التعذيب و عنصر المفاجئة و البغت أو وسائل الإرهاب النفسي. فالذي ينزل في ولده او زوجه شتى أنواع التعذيب و الهم و الغم و يهد مصيرهم حتى يصل بهم على الموت , فهو مجرم شديد الإجرام لا يختلف في حاله عمن يذيق خصمه جرعات متتابعة من السم قد تصل فيه إلى الوفاة.

بيد إن الرأي السائد في فرنسا لم يسر على هذا الحال فاستقر الفقه عندهم على ان مثل هذه الوسائل المعنوية لا يمكن أن تكون الركن المادي في جرائم القتل, و حجتهم في ذلك انه يصعب او يكاد يستحيل في مثل هذه الأساليب أن يتم إثبات علاقة السببية (رابطة السببية) بين الوسيلة الغير مادية و التي تشكل عنصر الفعل و بين النتيجة الجرمية و التي هي الوفاة. و إن في حال فقدان رابطة السببية كعنصر ثالث من عناصر الركن المادي سيقود بلا شك إلى فقدان الركن المادي بكامله و بالتالي عدم قيام الجريمة. و الفقه الفرنسي مجمع انه لم يحدث حتى الآن أن أقيمت دعوى قتل في مثل هذا النوع من القتل او على فاعل استخدم هذا النوع من الأساليب الغير مادية في تحقيق فعلته. و لذلك يرى الفقهاء الفرنسيون انه لا يمكن أن تقع جريمة القتل بوسائل غير مادية و إنما جريمة القتل دوماً تتحقق بوسائل مادية بحته. و يؤيدهم في ذلك عدد من الفقهاء المصريين

و لعلنا نجد إن الفقهاء الفرنسيون و من سار على دربهم لا يجادلون في إمكانية وقوع القتل بوسائل غير مادية , فهم يقرون في ذلك و لا ينكرونه و يؤكدون على ان القانون لم يشترط قيام الركن المادي لجريمة القتل بوسائل مادية فقط و إنما هم يجادلون في إمكانية قيام العلاقة السببية بين الفعل غير المادي و بين النتيجة الجرمية و التي هي الوفاة.

و السبب الذي يدفع الفقهاء الفرنسيون إلى تبني هذا الرأي هو إن التشريع الفرنسي يشدد كثيراً على قيام رابطة السببية و يتطلب ان يكون فعل الفاعل هو السبب المباشر و الحتمي للنتيجة الحاصلة, أي انه لو قام شخصاً بإطلاق النار على آخر بقصد قتله فكان بالقرب منهم شخص ثالث أفزعه صوت النار و دب فيه الرعب و مات فلا يعتبر الفعل (الذي أطلق النار) مسئولاً في نظرهم عن وفاة هذا الشخص الثالث و يعود ذلك انه لا يوجد رابطة سببية مباشرة و حتمية بين إطلاق النار و بين حصول الوفاة بالنسبة لهذا الشخص الثالث. و لا شك ان مثل هذا التبرير و التشدد في رابطة السببية ليس لها ما يبرره و هو يحتاج للكثير من النقاش و لا يمكن التسليم به في معظم الحالات.

Aucun commentaire:

أقسم بالله العظيم أن أقوم بأعمالي في مهنة المحـامـاة بأمــانة و شرف و أحافظ على سرالمهنة و أن أحترم القوانين و أن لا أتحدى الاحترام الواجب للمحاكم و للسلط العمومية