لقد عانى العالم منذ القدم من أخطار كثيرة، مثل الحروب والاستعمار والتفرقة العنصرية وغيرها، ولكنه أصبح اليوم يعاني من خطر الإرهاب الذي أضحى ظاهرة منتشرة في كثير من دول العالم. ويذكر بأن أكثر من واحدة وخمسين دولة كانت مسرحا لعمليات إرهابية أزهقت كثيرا من الأرواح وروعت المدنيين العزل([1])، وهذا مما زاد من الوعي الدولي بوجوب محاربة هذه الظاهرة([2]).
فالإرهاب قد يقوم به فرد، أو مجموعة، أو مجموعات منظمة من الأفراد، وقد تقوم به حكومة او دولة ضد شعب، أو دولة أو دول أخرى.
فإذا كان الأفراد أو المجموعات، تلجأ للإرهاب وسيلة يائسة لجلب الاهتمام لقضيتهم، فإن الحكومات تلجأ إليه لردع خصومها علما بأنه يتوافر لديها وسائل أخرى عوضا عن ذلك أهمها الحلول السياسية([3]).
وبناء على ما تقدم فإنه يمكننا تقسيم الإرهاب إلى مايلي:
1. الإرهاب الفردي: وهو الذي يرتكبه الأفراد لأسباب متعددة.
2. الإرهاب الجماعي غير المنظم: وهو الإرهاب الذي ترتكبه جماعات غير منظمة من الناس تحقيقا لمآرب خاصة.
3. الإرهاب الجماعي المنظم: الذي يتمثل في جماعات الإرهاب التي تديرها وتشرف عليها دول غير ظاهرة أو مؤسسات أو هيئات مختلفة.
4. الإرهاب الدولي: وهو الإرهاب الذي تقوم به دولة واحدة أو أكثر. فهو إما أن يكون إرهابا دوليا أحاديا وهو الذي ترتكبه دولة واحدة، أو إرهابا ثنائيا وهو الذي ترتكبه دولتان، أو إرهابا جماعيا وهو الذي ترتكبه مجموعة من الدول أو يقع من دولة واحدة ولكن بدعم من دول أو حلف من الدول الأخرى.
والذي سوف نهتم به في هذا المبحث هو الإرهاب الجماعي المنظم والإرهاب الدولي بأنواعه، وذلك لأن باقي أنواع الإرهاب هي – كما سبق وأشرنا – من اختصاص القوانين الوطنية والحكومات المحلية([4]) التي يقع على عاتقها معالجة ذلك بالأسلوب الداخلي المناسب، وتتحمل الدول المسؤولية الدولية في حال إخلالها بالتزاماتها الدولية في حفظ أمن وسلامة الأجانب وممتلكاتهم على أقاليم تلك الدول، أما الارهاب الجماعي المنظم، الإرهاب الدولي، فهما من الأهمية بمكان وخاصة الإرهاب الدولي، وذلك لأن آثاره دولية ومعالجته دولية، ولذا يجب بحثه من هذا الجانب.
أولا: الإرهاب الجماعي المنظم
وهو الذي تمارسه منظمة سعيا لتحقيق أهداف سياسية او تقوم به دول دون أن تظهر علانية، ولكن من خلال إنشائها لجماعات معينة تتولى تحقيق أغراضها، من ذلك مثلا أعمال العنف الإرهابية التي تقوم بها بعض المنظمات، التي تشكل خرقا لقوانين الحرب الدولية، وخاصة اتفاقيات جنيف الأربع سنة 1949م، حيث تتحمل هذه المنظمات الجماعية ذات الأهداف السياسية مسؤولية اعمال الإرهاب هذه كما تلتزم بالتبعات المترتبة عليها، شأنها في ذلك شأن الدول، وتستطيع الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة أن تدين هذه الأعمال وتلزم تلك المنظمات الجماعية بإزالة الآثار المترتبة عليها طبقا لقواعد القانون الدولي([5])، إلا أنه لا يجوز إسباغ صفة الإرهاب على هذه المنظمات إلا إذا استمرت في انتهاكاتها، وذلك لأن لها أهدافا عامة وليست خاصة، اما إذا كانت هذه الجماعات المنظمة قد أنشأت خصيصا لممارسة أعمال إرهابية لخدمة جهات أو دول غير ظاهرة فإنها عندئذ تكون منظمات إرهابية المنشأ، والهدف، والنتائج([6]).
ثانيا: الإرهاب الدولي
ويقصد بالإرهاب الدولي اعمال العنف التي تقوم بها الدول ضد الأفراد، أو الجماعات، وذلك بهدف الانتقام، ودون مبرر قانوني. وتفصيل ذلك:
1. الإرهاب الدولي ضد الأفراد:
هذا النوع من الإرهاب تقوم به بعض الدول ضد الأفراد، بسبب الاختلاف في الآراء السياسية، حيث تعتبرهم الدولة خارجين عن القانون، غير أن هذا المفهوم هو مفهوم خاطىء، وذلك لأن هناك خطوات وإجراءات يتعين على الدولة، القيام بها، قبل أن تقوم بأعمال إرهابية ضد كاتب مقال في دولة أخرى مثلا، بل يتعين عليها أن تقوم بمحاورة هذا الكاتب بالطريقة نفسها وبالأسلوب نفسه([7]).
وقد ازدادت حدة هذا النوع من الإرهاب الموجه ضد فئات معينة لسبب انتمائها العرقي أو الديني، وقد ظهر ذلك جليا في كثير من الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصا بعد احداث الحادي عشر من ايلول عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبحت الأعمال الإرهابية تستهدف كثيرا من الأفراد والجمعيات والمؤسسات الإسلامية بما فيها المساجد، ومن قبيل هذا النوع من الإرهاب أيضا أعمال القمع التي كانت تمارسها حكومة جنوب إفريقيا ضد السكان الأفارقة السود([8]).
2. الإرهاب الدولي ضد الجماعات المنظمة المشروعة:
ويتمثل ذلك بملاحقة دولة ما، جماعات سياسية، أو منظمات ثقافية، والاعتداء عليها بحجة أنها منظمات إرهابية.
ولا شك أن أعمال هذه الدولة ضد الجماعات والمنظمات المشروعة تعتبر عملا إرهابيا يتناقض وأحكام القانون الدولي، غير أن المجتمع الدولي يقف عاجزا عن عمل أي شيء ضد تلك الدولة، وذلك بسبب توازن القوى الدولية واستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي من قبل الأعضاء الدائمين في المجلس([9])، مما يحول دون اتخاذ إجراءات رادعة ضد تلك الدولة.
المبحث الثالث: التفرقة بين الإرهاب وأعمال المقاومة الشعبية المسلحة
لعل من أصعب وأدق المشاكل القانونية التي واجهت الدارسين لمشكلة الإرهاب الدولي هي مسألة التفرقة بين أعمال الإرهاب، وتلك الأعمال التي تقوم بها حركات التحرر الوطني وصولا لحقها في تقرير المصير.
فإذا كانت الأمم المتحدة وجمعيتها العامة تحديدا ممثلة بلجنتها السادسة قد درست موضوع الإرهاب بناء على طلب الأمين العام للأمم المتحدة في أعقاب حادث ميونيخ سنة 1972م، حيث أدرجت مشكلة الإرهاب في حينه على جدول أعمال الدورة السابعة والعشرين، فقد كانت أساليب الإرهاب التي تمارس خلال الصراع من أجل التحرر الوطني من أكثر الأمور التي بحثت صعوبة ودقة، ولذلك فقد انقسمت الوفود المشاركة في حينه إلى فريقين، فذهب الفريق الأول إلى القول بإستحالة إدانة الإرهاب الذي يمارس بهدف الوصول إلى الحق في تقرير المصير، في حين ذهب الفريق الثاني إلى القول بأن التسليم بشرعية المقاومة الشعبية المسلحة من أجل تقرير المصير، لا يعني بحال التسليم للمقاومة الشعبية بممارسة أساليب الإرهاب([10]).
وقد جاءت التوصية رقم 3034 الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بناء على اقتراح اللجنة السادسة انتصار للرأي الأول.
فقد أكدت على الحق في تقرير المصير وأقرت شرعية نضال الشعوب الخاضعة للاستعمار، كما أدانت أعمال الإرهاب التي تمارسها الأنظمة الاستعمارية ضد حقوق الشعوب في تقرير مصيرها([11]).
وبناء على ما سبق فسوف أتناول في هذا المبحث بشيء من التفصيل مسألتين: الأولى هي التعريف بحق تقرير المصير، أما الثانية فهي التفرقة بين الإرهاب وأعمال حركات التحرر الوطني.
أولا: التعريف بحق تقرير المصير
ليس هناك تعريف محدد لحق تقرير المصير ولا لكيفية تحقيقه، مما دفع البعض إلى إنكار القيمة القانونية الملزمة له بإعتبار أنه مبدأ يحيطه الغموض، وقد انعكس ذلك على التعريفات العديدة التي قيلت حوله([12])، غير أنه عندما أثير موضوع تقرير المصير خلال الحرب العالمية الأولى، كان الرئيس الأمريكي ويلسون قد أعطى تأييده للمبدأ قبل دخول دولته الحرب([13]).
وفي عهد عصبة الأمم لم يتم النص على مبدأ تقرير المصير ضمن العهد الخاص بالعصبة، وإن كان قد طبق معناه في النصوص المتعلقة بحماية الأقليات، وعن طريق وضع نظام الانتداب([14])، غير انه عندما تم وضع ميثاق الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية تم النص صراحة على تقرير المصير في المادتين الأولى والخامسة والخمسين منه([15]).
ورغم اختلاف الفقهاء في تعريف تقرير المصير وتحديد طبيعته، إلا أنه يمكن القول بأن تقرير المصير يعني "أن يكون لكل شعب الحق في تكوين دولة مستقلة وأن يختار نظامه السياسي بحريته([16])". فتقرير المصير له جانبان: أحدهما داخلي ويتعلق باختيار شكل الحكم الملائم، والآخر دولي ويتمثل في حق الشعب في الاستقلال، وبأن لا يكون محلا للمبادلة أو التنازل بغير إرادته. كما يتمثل أيضا في حق الشعب في الانفصال عن الدولة التي يتبعها من أجل الاندماج مع دولة أخرى أو الاتحاد معها أو لتكوين دولة مستقلة([17]).
ونظرا لأن تقرير المصير من الحقوق الجماعية وليست الفردية، فإنه لم يتم النص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، وهو الذي عني أساسا بالحقوق الفردية إلا أنه مع ذلك أقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولي، وهو مبدأ المساواة الذي اشتق منه حق تقرير المصير([18]).
وحتى نكون بصدد حالة انكار لتقرير المصير لا بد من توافر ثلاثة شروط هي:
1. وجود مجموعات من السكان ذات وجود مشترك في إقليمها.
2. خضوع هذه المجموعات السكانية لسيطرة قوة غريبة عنها، سواء أكانت مجرد قوة عسكرية تابعة لدولة أخرى أم قوة أجنبية استيطانية تقيم على نفس الإقليم.
3. أن يتم حرمان هذه المجموعات السكانية صاحبة الإقليم من حقها في ممارسة سيادتها عليه([19]).
وبذلك نجد أن تقرير المصير يعد حقا كامنا في مجموع السكان الذين يقيمون في إقليم معين ويشكلون شعبا واحدا، فهو يخص جميع الشعب وليس جزءا منه([20])، لذا فإن الاحتلال الأجنبي لذلك الاقليم يعتبر انكارا لحق تقرير المصير، كما أن إستيطان إقليم معين مأهول بالسكان من قبل مجموعات بشرية أجنبية عنه، وفرض سيطرتها عليه واستغلاله لمصلحتها، كما حصل في الجزائر من قبل وفلسطين اليوم، هو من قبيل إنكار ذلك الحق أيضا([21]).
ومما تجدر الإشارة إليه أن جانبا من الفقه الاستعماري الغربي يحاول أن يحيط الوضع الدولي لحركات التحرر الوطني بالشك، وذلك من خلال قولهم بأن تقرير المصير لا يزال مجرد مبدأ ولم يتحول بعد إلى حق، ولذلك يرون أن نضال هذه الحركات يعد إرهابا يجب استنكاره. وقد اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية – تحت ستار قانوني – موقفا مناهضا لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤيدا لإسرائيل([22]).
ويمكن القول أن الخلاف حول تقرير المصير كان محتدما قبل وضع ميثاق الأمم المتحدة، إذ كان الاتجاه الغالب في الفقه – في ذلك الوقت – يرى أن حق تقرير المصير هو مجرد مبدأ سياسي وضع لإنهاء أوضاع استعمارية، وترتيب أوضاع إقليمية ناتجة عن ظروف دولية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن بعد صدور ميثاق الأمم المتحدة ونصه على تقرير المصير في المادتين 1/2 و 55 منه، اتجه جانب كبير من الفقه إلى اعتباره حقا قانونيا وليس مجرد مبدأ سياسي([23])، ولذلك ذهب البعض إلى القول بأن "مبدأ تقرير المصير للشعوب قد تحول من مبدأ سياسي إلى مبدأ قانوني، وعلى الأرجح فقد تحول أيضا من مبدأ قانوني إلى حق قانوني"([24]).
وقد أكدت الأمم المتحدة ذلك بالعديد من القرارات التي أصدرتها ومنها القرار رقم 637 بتاريخ 16/12/1970، الذي اعتبرت فيه حق الشعوب في تقرير مصيرها شرطا أساسيا للتمتع بسائر الحقوق والحريات الأخرى، وقد جاءت الاتفاقيتان الدوليتان (الاتفاقية الدولية لحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الثقافية) لتدعما هذا الموقف([25]).
وقد أجاز الفقه الدولي استخدام القوة لاستخلاص هذا الحق في حال الاعتداء عليه([26])، يضاف إلى ما سبق أن الإعتراف الدولي بتقرير المصير له أهمية كبرى وخاصة بالنسبة للشعوب المضطهدة والمكافحة ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي، وذلك لأن تثبيت حق تقرير المصير في ميثاق الأمم المتحدة يعطي لهذه الشعوب الأساس القانوني والدولي للحصول على حقها في تقرير المصير بكافة السبل([27]).
ويجدر بنا أخيرا أن نشير إلى أن حق الشعوب في تقرير مصيرها لم يعد يقتصر على الجوانب السياسية والثقافية، بل إنه يشمل كذلك الجوانب الاقتصادية مثل حق الشعوب في السيطرة على ثرواتها الطبيعية ومواردها القومية، وهو ما أكدته الأمم المتحدة عام 1962م عندما أصدرت إعلانها المعروف بإسم "إعلان السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية"([28]).
ثانيا: الفرق بين الإرهاب وأعمال حركات التحرر الوطني
لعبت هيئة الأمم المتحدة دورا بارزا في محاربة الاستعمار، وأكدت في كثير من قراراتها على حق الشعوب الخاضعة له بالتحرر منه بكافة الوسائل، ونصت على ذلك في كثير من قراراتها، ومنها على سبيل المثال: القرار رقم 3101 الصادر في 12/12/1972 في الدورة
الثامنة والعشرين، وقد أعطت الجمعية العامة لهذه الشعوب – لأول مرة – في عام 1970، الحق في استخدام الكفاح المسلح وصولا لحق في استخدام الكفاح المسلح وصولا لحق تقرير المصير، وقد أعادت التأكيد على هذا الحق في كثير من القرارات التي صدرت فيما بعد([29]).
وفي الوقت ذاته عملت الأمم المتحدة على تدعيم المركز القانوني لحركات التحرر الوطني في العالم، عبر كثير من القرارات الهامة التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في الفترة الواقعة بين عام 1970 وعام 1985، حيث أبرزت الشخصية القانونية الدولية لهذه الحركات إلى جانب الدول كاملة السيادة أعضاء المجتمع الدولي، فمنحت منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1974م صفة المراقب الدائم في مختلف اجهزة الأمم المتحدة، مما سمح لها أن تشترك في أجهزة هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وكذلك الاشتراك في مناقشة مشاريع الاتفاقيات التي تعدها لجنة القانون الدولي بصفة مراقب أيضا([30]).
كذلك فقد ساهمت قواعد القانون الدولي الإنساني في تدعيم المركز القانوني لحركات التحرر الوطني، وإصباغ صفة المشروعية على أعمالها المسلحة وصولا لحق تقرير المصير، وذلك من خلال الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف لسنة 1949م الصادر عام 1977م، وبشكل خاص المادة الأولى / فقرة (4) التي نصت صراحة على أن:
"تتضمن الأوضاع المشار إليها في الفقرة السابقة، المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادىء القانون الدولي الخاص بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول، طبقا لميثاق الأمم المتحدة([31])".
إن لجوء حركات التحرر الوطني لممارسة العنف لا يتم إلا عندما تعجز هذه الحركات عن شن حرب واسعة النطاق، كالحرب التي شنها الجزائريون ضد الاستعمار الفرنسي، أو الأنغوليون ضد الاستعمار البرتغالي، أو حرب الفيتناميين ضد قوات الولايات المتحدة الأمريكية، فعندما تواجه هذه الحركات طريقا مسدودا لشن حرب تحرير شاملة، فإنها تلجأ إلى أعمال العنف التي تؤرق العدو وتحرمه من الشعور بالأمن والأمان([32]).
ولا تعتبر أعمال العنف التي تصدر عن حركات التحرر الوطني اعمالا إرهابية، لأن هناك فرقا بين الحركات الإرهابية وحركات التحرر الوطني، ففي حركات التحرر الوطني نجد أن هناك رغبة عارمة لدى أفراد الشعب بمختلف طبقاته واتجاهاته للانضمام إليها، من أجل ممارسة المقاومة الشعبية ضد المعتدي، في حين أن المنخرطين في الجماعات الإرهابية، هم قلة من أفراد المجتمع الناقمون على الأوضاع السائدة فيه، ولا يمثلون بحال من الأحوال قطاعا عريضا من الشعب([33]).
ورغم ما تتميز به أعمال المقاومة الشعبية عن الجماعات الإرهابية، فإنه من الممكن ان تحدث أعمال إرهابية في إطار حركات التحرر الوطني، تماما مثلما ترتكب بعض الدول أعمالا إرهابية أثناء الحروب النظامية.
إن إرتكاب الدول لهذه الأعمال الإرهابية، لا يعني التبرير لحركات التحرر الوطني باستخدام هذه الوسائل، بل يتعين عليها أن تعلم بان لها حقوقا، وعليها التزامات، أهمها مراعاة القواعد العامة في القانون الدولي الإنساني زمن المنازعات المسلحة وبخاصة عدم ضرب المدنيين([34])،
لأن الإمعان في ارتكاب هذه الأعمال وتكرارها قد يتسبب في إضفاء صفة الإرهاب عليها، كذلك يتعين عليها أن تقوم بأعمالها المسلحة داخل إقليمها وليس خارجه([35])، أما نضالها بالوسائل السلمية، من أجل توعية الرأي العام الدولي ونشر الدعاية لأهدافها التحررية خارج إقليمها، فهي أمور مباحة، ومشروعة في القانون الدولي.
نخلص من عرضنا السابق إلى أن هناك فرقا واضحا في إطار القانون الدولي، بين الإرهاب والكفاح المسلح من قبل حركات التحرر الوطني وصولا إلى حق تقرير المصير([36])، بل إن الفقهاء اعتبروا خرق حق تقرير المصير وعدم المحافظة عليه جريمة دولية، بل أنه أصبح قاعدة آمرة Jus Cognes في القانون الدولي([37])، وذلك لأن كفاح هذه الحركات ضد السيطرة الأجنبية والقوى الاستعمارية التي تنكر حقها في تقرير المصير أصبح مشروعا (Legitimate) أو عادلا (Just)، وهو ما يعني بمفهوم المخالفة أن فعل الطرف الآخر يكون غير عادل (Unjust)([38]).
ويجدر بنا في ختام هذا المبحث ان نشير إلى أن الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب قد وضعت حدا فاصلا، بين أعمال الكفاح المشروع ضد الاحتلال الأجنبي من أجل التحرير وتقرير المصير، والأعمال الإرهابية، حيث جاء في الفقرة (أ) من المادة الثانية من الاتفاقية: "إن حالات الكفاح المشروع ضد الاحتلال الأجنبي من اجل التحرير وتقرير المصير لا يعد من الجرائم الإرهابية وفقا لمبادىء القانون الدولي".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المرجع السابق، ص162.
[2] لقد تزامن مع كتابة هذا المبحث وقوع الاعتداءات الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 11/أيلول/2001م، التي فاقت في دقتها وجسامتها ونتائجها كل ما هو متعارف عليه في الإرهاب الدولي، بصوره المتعددة، مما فتح الباب واسعا على مصراعيه لمحاربة هذه الظاهرة على المستوى الدولي، المتمثل في سعي الولايات المتحدة الأمريكية لتشكيل تحالف دولي واسع لمحاربة الظاهرة الإرهابية الجديدة "إرهاب القرن الحادي والعشرين"، وقد تم تشكيل هذا التحالف فعلا من تسع وعشرون دولة.
[3] شعبان، إبراهيم محمد، الانتفاضة الفلسطينية في عامها الأول دراسة في ضوء أحكام، القانون الدولي العام، القدس سنة 1989. ص105.
[4] هناك دراسة تفصيلية لموقف بعض التشريعات الداخلية في معالجة الإرهاب، وخاصة في ألمانيا، هولندا، سويسرا، بريطانيا، بلجيكا ومصر في رسالة محب الدين، محمد مؤنس، الإرهاب في القانون الجنائي، ص304-337.
[5] أبو اسخيلة، محمد عبد العزيز، الفوارق القانونية والسياسية بين مفهومي حق الشعوب في الكفاح المسلح من أجل تقرير المصير والإرهاب الدولي، مؤتمر اتحاد المحامين العرب السادس عشر المنعقد في الكويت سنة 1987م كتاب أبحاث المؤتمر، الجزء الثاني ص606-607.
[6] المرجع السابق، ص607.
[7] المرجع سابق، ص607.
[8] عبد الخالق، محمد عبد المنعم، الجرائم الدولية، دراسة تأصيلية للجرائم ضد الإنسانية والسلام، وجرائم الحرب، طبعة أولى سنة 1989م، ص107.
[9] أبو سخيلة، محمد عبد العزيز، الفوارق القانونية والسياسة بين مفهومي حق الشعوب في الكفاح المسلح من أجل تقرير المصير والإرهاب الدولي، ص 608.
[10] عامر، صلاح الدين، المقاومة الشعبية المسلحة في القانون الدولي، ص 492.
[11]
فالإرهاب قد يقوم به فرد، أو مجموعة، أو مجموعات منظمة من الأفراد، وقد تقوم به حكومة او دولة ضد شعب، أو دولة أو دول أخرى.
فإذا كان الأفراد أو المجموعات، تلجأ للإرهاب وسيلة يائسة لجلب الاهتمام لقضيتهم، فإن الحكومات تلجأ إليه لردع خصومها علما بأنه يتوافر لديها وسائل أخرى عوضا عن ذلك أهمها الحلول السياسية([3]).
وبناء على ما تقدم فإنه يمكننا تقسيم الإرهاب إلى مايلي:
1. الإرهاب الفردي: وهو الذي يرتكبه الأفراد لأسباب متعددة.
2. الإرهاب الجماعي غير المنظم: وهو الإرهاب الذي ترتكبه جماعات غير منظمة من الناس تحقيقا لمآرب خاصة.
3. الإرهاب الجماعي المنظم: الذي يتمثل في جماعات الإرهاب التي تديرها وتشرف عليها دول غير ظاهرة أو مؤسسات أو هيئات مختلفة.
4. الإرهاب الدولي: وهو الإرهاب الذي تقوم به دولة واحدة أو أكثر. فهو إما أن يكون إرهابا دوليا أحاديا وهو الذي ترتكبه دولة واحدة، أو إرهابا ثنائيا وهو الذي ترتكبه دولتان، أو إرهابا جماعيا وهو الذي ترتكبه مجموعة من الدول أو يقع من دولة واحدة ولكن بدعم من دول أو حلف من الدول الأخرى.
والذي سوف نهتم به في هذا المبحث هو الإرهاب الجماعي المنظم والإرهاب الدولي بأنواعه، وذلك لأن باقي أنواع الإرهاب هي – كما سبق وأشرنا – من اختصاص القوانين الوطنية والحكومات المحلية([4]) التي يقع على عاتقها معالجة ذلك بالأسلوب الداخلي المناسب، وتتحمل الدول المسؤولية الدولية في حال إخلالها بالتزاماتها الدولية في حفظ أمن وسلامة الأجانب وممتلكاتهم على أقاليم تلك الدول، أما الارهاب الجماعي المنظم، الإرهاب الدولي، فهما من الأهمية بمكان وخاصة الإرهاب الدولي، وذلك لأن آثاره دولية ومعالجته دولية، ولذا يجب بحثه من هذا الجانب.
أولا: الإرهاب الجماعي المنظم
وهو الذي تمارسه منظمة سعيا لتحقيق أهداف سياسية او تقوم به دول دون أن تظهر علانية، ولكن من خلال إنشائها لجماعات معينة تتولى تحقيق أغراضها، من ذلك مثلا أعمال العنف الإرهابية التي تقوم بها بعض المنظمات، التي تشكل خرقا لقوانين الحرب الدولية، وخاصة اتفاقيات جنيف الأربع سنة 1949م، حيث تتحمل هذه المنظمات الجماعية ذات الأهداف السياسية مسؤولية اعمال الإرهاب هذه كما تلتزم بالتبعات المترتبة عليها، شأنها في ذلك شأن الدول، وتستطيع الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة أن تدين هذه الأعمال وتلزم تلك المنظمات الجماعية بإزالة الآثار المترتبة عليها طبقا لقواعد القانون الدولي([5])، إلا أنه لا يجوز إسباغ صفة الإرهاب على هذه المنظمات إلا إذا استمرت في انتهاكاتها، وذلك لأن لها أهدافا عامة وليست خاصة، اما إذا كانت هذه الجماعات المنظمة قد أنشأت خصيصا لممارسة أعمال إرهابية لخدمة جهات أو دول غير ظاهرة فإنها عندئذ تكون منظمات إرهابية المنشأ، والهدف، والنتائج([6]).
ثانيا: الإرهاب الدولي
ويقصد بالإرهاب الدولي اعمال العنف التي تقوم بها الدول ضد الأفراد، أو الجماعات، وذلك بهدف الانتقام، ودون مبرر قانوني. وتفصيل ذلك:
1. الإرهاب الدولي ضد الأفراد:
هذا النوع من الإرهاب تقوم به بعض الدول ضد الأفراد، بسبب الاختلاف في الآراء السياسية، حيث تعتبرهم الدولة خارجين عن القانون، غير أن هذا المفهوم هو مفهوم خاطىء، وذلك لأن هناك خطوات وإجراءات يتعين على الدولة، القيام بها، قبل أن تقوم بأعمال إرهابية ضد كاتب مقال في دولة أخرى مثلا، بل يتعين عليها أن تقوم بمحاورة هذا الكاتب بالطريقة نفسها وبالأسلوب نفسه([7]).
وقد ازدادت حدة هذا النوع من الإرهاب الموجه ضد فئات معينة لسبب انتمائها العرقي أو الديني، وقد ظهر ذلك جليا في كثير من الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصا بعد احداث الحادي عشر من ايلول عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبحت الأعمال الإرهابية تستهدف كثيرا من الأفراد والجمعيات والمؤسسات الإسلامية بما فيها المساجد، ومن قبيل هذا النوع من الإرهاب أيضا أعمال القمع التي كانت تمارسها حكومة جنوب إفريقيا ضد السكان الأفارقة السود([8]).
2. الإرهاب الدولي ضد الجماعات المنظمة المشروعة:
ويتمثل ذلك بملاحقة دولة ما، جماعات سياسية، أو منظمات ثقافية، والاعتداء عليها بحجة أنها منظمات إرهابية.
ولا شك أن أعمال هذه الدولة ضد الجماعات والمنظمات المشروعة تعتبر عملا إرهابيا يتناقض وأحكام القانون الدولي، غير أن المجتمع الدولي يقف عاجزا عن عمل أي شيء ضد تلك الدولة، وذلك بسبب توازن القوى الدولية واستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي من قبل الأعضاء الدائمين في المجلس([9])، مما يحول دون اتخاذ إجراءات رادعة ضد تلك الدولة.
المبحث الثالث: التفرقة بين الإرهاب وأعمال المقاومة الشعبية المسلحة
لعل من أصعب وأدق المشاكل القانونية التي واجهت الدارسين لمشكلة الإرهاب الدولي هي مسألة التفرقة بين أعمال الإرهاب، وتلك الأعمال التي تقوم بها حركات التحرر الوطني وصولا لحقها في تقرير المصير.
فإذا كانت الأمم المتحدة وجمعيتها العامة تحديدا ممثلة بلجنتها السادسة قد درست موضوع الإرهاب بناء على طلب الأمين العام للأمم المتحدة في أعقاب حادث ميونيخ سنة 1972م، حيث أدرجت مشكلة الإرهاب في حينه على جدول أعمال الدورة السابعة والعشرين، فقد كانت أساليب الإرهاب التي تمارس خلال الصراع من أجل التحرر الوطني من أكثر الأمور التي بحثت صعوبة ودقة، ولذلك فقد انقسمت الوفود المشاركة في حينه إلى فريقين، فذهب الفريق الأول إلى القول بإستحالة إدانة الإرهاب الذي يمارس بهدف الوصول إلى الحق في تقرير المصير، في حين ذهب الفريق الثاني إلى القول بأن التسليم بشرعية المقاومة الشعبية المسلحة من أجل تقرير المصير، لا يعني بحال التسليم للمقاومة الشعبية بممارسة أساليب الإرهاب([10]).
وقد جاءت التوصية رقم 3034 الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بناء على اقتراح اللجنة السادسة انتصار للرأي الأول.
فقد أكدت على الحق في تقرير المصير وأقرت شرعية نضال الشعوب الخاضعة للاستعمار، كما أدانت أعمال الإرهاب التي تمارسها الأنظمة الاستعمارية ضد حقوق الشعوب في تقرير مصيرها([11]).
وبناء على ما سبق فسوف أتناول في هذا المبحث بشيء من التفصيل مسألتين: الأولى هي التعريف بحق تقرير المصير، أما الثانية فهي التفرقة بين الإرهاب وأعمال حركات التحرر الوطني.
أولا: التعريف بحق تقرير المصير
ليس هناك تعريف محدد لحق تقرير المصير ولا لكيفية تحقيقه، مما دفع البعض إلى إنكار القيمة القانونية الملزمة له بإعتبار أنه مبدأ يحيطه الغموض، وقد انعكس ذلك على التعريفات العديدة التي قيلت حوله([12])، غير أنه عندما أثير موضوع تقرير المصير خلال الحرب العالمية الأولى، كان الرئيس الأمريكي ويلسون قد أعطى تأييده للمبدأ قبل دخول دولته الحرب([13]).
وفي عهد عصبة الأمم لم يتم النص على مبدأ تقرير المصير ضمن العهد الخاص بالعصبة، وإن كان قد طبق معناه في النصوص المتعلقة بحماية الأقليات، وعن طريق وضع نظام الانتداب([14])، غير انه عندما تم وضع ميثاق الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية تم النص صراحة على تقرير المصير في المادتين الأولى والخامسة والخمسين منه([15]).
ورغم اختلاف الفقهاء في تعريف تقرير المصير وتحديد طبيعته، إلا أنه يمكن القول بأن تقرير المصير يعني "أن يكون لكل شعب الحق في تكوين دولة مستقلة وأن يختار نظامه السياسي بحريته([16])". فتقرير المصير له جانبان: أحدهما داخلي ويتعلق باختيار شكل الحكم الملائم، والآخر دولي ويتمثل في حق الشعب في الاستقلال، وبأن لا يكون محلا للمبادلة أو التنازل بغير إرادته. كما يتمثل أيضا في حق الشعب في الانفصال عن الدولة التي يتبعها من أجل الاندماج مع دولة أخرى أو الاتحاد معها أو لتكوين دولة مستقلة([17]).
ونظرا لأن تقرير المصير من الحقوق الجماعية وليست الفردية، فإنه لم يتم النص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، وهو الذي عني أساسا بالحقوق الفردية إلا أنه مع ذلك أقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولي، وهو مبدأ المساواة الذي اشتق منه حق تقرير المصير([18]).
وحتى نكون بصدد حالة انكار لتقرير المصير لا بد من توافر ثلاثة شروط هي:
1. وجود مجموعات من السكان ذات وجود مشترك في إقليمها.
2. خضوع هذه المجموعات السكانية لسيطرة قوة غريبة عنها، سواء أكانت مجرد قوة عسكرية تابعة لدولة أخرى أم قوة أجنبية استيطانية تقيم على نفس الإقليم.
3. أن يتم حرمان هذه المجموعات السكانية صاحبة الإقليم من حقها في ممارسة سيادتها عليه([19]).
وبذلك نجد أن تقرير المصير يعد حقا كامنا في مجموع السكان الذين يقيمون في إقليم معين ويشكلون شعبا واحدا، فهو يخص جميع الشعب وليس جزءا منه([20])، لذا فإن الاحتلال الأجنبي لذلك الاقليم يعتبر انكارا لحق تقرير المصير، كما أن إستيطان إقليم معين مأهول بالسكان من قبل مجموعات بشرية أجنبية عنه، وفرض سيطرتها عليه واستغلاله لمصلحتها، كما حصل في الجزائر من قبل وفلسطين اليوم، هو من قبيل إنكار ذلك الحق أيضا([21]).
ومما تجدر الإشارة إليه أن جانبا من الفقه الاستعماري الغربي يحاول أن يحيط الوضع الدولي لحركات التحرر الوطني بالشك، وذلك من خلال قولهم بأن تقرير المصير لا يزال مجرد مبدأ ولم يتحول بعد إلى حق، ولذلك يرون أن نضال هذه الحركات يعد إرهابا يجب استنكاره. وقد اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية – تحت ستار قانوني – موقفا مناهضا لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤيدا لإسرائيل([22]).
ويمكن القول أن الخلاف حول تقرير المصير كان محتدما قبل وضع ميثاق الأمم المتحدة، إذ كان الاتجاه الغالب في الفقه – في ذلك الوقت – يرى أن حق تقرير المصير هو مجرد مبدأ سياسي وضع لإنهاء أوضاع استعمارية، وترتيب أوضاع إقليمية ناتجة عن ظروف دولية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن بعد صدور ميثاق الأمم المتحدة ونصه على تقرير المصير في المادتين 1/2 و 55 منه، اتجه جانب كبير من الفقه إلى اعتباره حقا قانونيا وليس مجرد مبدأ سياسي([23])، ولذلك ذهب البعض إلى القول بأن "مبدأ تقرير المصير للشعوب قد تحول من مبدأ سياسي إلى مبدأ قانوني، وعلى الأرجح فقد تحول أيضا من مبدأ قانوني إلى حق قانوني"([24]).
وقد أكدت الأمم المتحدة ذلك بالعديد من القرارات التي أصدرتها ومنها القرار رقم 637 بتاريخ 16/12/1970، الذي اعتبرت فيه حق الشعوب في تقرير مصيرها شرطا أساسيا للتمتع بسائر الحقوق والحريات الأخرى، وقد جاءت الاتفاقيتان الدوليتان (الاتفاقية الدولية لحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الثقافية) لتدعما هذا الموقف([25]).
وقد أجاز الفقه الدولي استخدام القوة لاستخلاص هذا الحق في حال الاعتداء عليه([26])، يضاف إلى ما سبق أن الإعتراف الدولي بتقرير المصير له أهمية كبرى وخاصة بالنسبة للشعوب المضطهدة والمكافحة ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي، وذلك لأن تثبيت حق تقرير المصير في ميثاق الأمم المتحدة يعطي لهذه الشعوب الأساس القانوني والدولي للحصول على حقها في تقرير المصير بكافة السبل([27]).
ويجدر بنا أخيرا أن نشير إلى أن حق الشعوب في تقرير مصيرها لم يعد يقتصر على الجوانب السياسية والثقافية، بل إنه يشمل كذلك الجوانب الاقتصادية مثل حق الشعوب في السيطرة على ثرواتها الطبيعية ومواردها القومية، وهو ما أكدته الأمم المتحدة عام 1962م عندما أصدرت إعلانها المعروف بإسم "إعلان السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية"([28]).
ثانيا: الفرق بين الإرهاب وأعمال حركات التحرر الوطني
لعبت هيئة الأمم المتحدة دورا بارزا في محاربة الاستعمار، وأكدت في كثير من قراراتها على حق الشعوب الخاضعة له بالتحرر منه بكافة الوسائل، ونصت على ذلك في كثير من قراراتها، ومنها على سبيل المثال: القرار رقم 3101 الصادر في 12/12/1972 في الدورة
الثامنة والعشرين، وقد أعطت الجمعية العامة لهذه الشعوب – لأول مرة – في عام 1970، الحق في استخدام الكفاح المسلح وصولا لحق في استخدام الكفاح المسلح وصولا لحق تقرير المصير، وقد أعادت التأكيد على هذا الحق في كثير من القرارات التي صدرت فيما بعد([29]).
وفي الوقت ذاته عملت الأمم المتحدة على تدعيم المركز القانوني لحركات التحرر الوطني في العالم، عبر كثير من القرارات الهامة التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في الفترة الواقعة بين عام 1970 وعام 1985، حيث أبرزت الشخصية القانونية الدولية لهذه الحركات إلى جانب الدول كاملة السيادة أعضاء المجتمع الدولي، فمنحت منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1974م صفة المراقب الدائم في مختلف اجهزة الأمم المتحدة، مما سمح لها أن تشترك في أجهزة هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وكذلك الاشتراك في مناقشة مشاريع الاتفاقيات التي تعدها لجنة القانون الدولي بصفة مراقب أيضا([30]).
كذلك فقد ساهمت قواعد القانون الدولي الإنساني في تدعيم المركز القانوني لحركات التحرر الوطني، وإصباغ صفة المشروعية على أعمالها المسلحة وصولا لحق تقرير المصير، وذلك من خلال الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف لسنة 1949م الصادر عام 1977م، وبشكل خاص المادة الأولى / فقرة (4) التي نصت صراحة على أن:
"تتضمن الأوضاع المشار إليها في الفقرة السابقة، المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادىء القانون الدولي الخاص بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول، طبقا لميثاق الأمم المتحدة([31])".
إن لجوء حركات التحرر الوطني لممارسة العنف لا يتم إلا عندما تعجز هذه الحركات عن شن حرب واسعة النطاق، كالحرب التي شنها الجزائريون ضد الاستعمار الفرنسي، أو الأنغوليون ضد الاستعمار البرتغالي، أو حرب الفيتناميين ضد قوات الولايات المتحدة الأمريكية، فعندما تواجه هذه الحركات طريقا مسدودا لشن حرب تحرير شاملة، فإنها تلجأ إلى أعمال العنف التي تؤرق العدو وتحرمه من الشعور بالأمن والأمان([32]).
ولا تعتبر أعمال العنف التي تصدر عن حركات التحرر الوطني اعمالا إرهابية، لأن هناك فرقا بين الحركات الإرهابية وحركات التحرر الوطني، ففي حركات التحرر الوطني نجد أن هناك رغبة عارمة لدى أفراد الشعب بمختلف طبقاته واتجاهاته للانضمام إليها، من أجل ممارسة المقاومة الشعبية ضد المعتدي، في حين أن المنخرطين في الجماعات الإرهابية، هم قلة من أفراد المجتمع الناقمون على الأوضاع السائدة فيه، ولا يمثلون بحال من الأحوال قطاعا عريضا من الشعب([33]).
ورغم ما تتميز به أعمال المقاومة الشعبية عن الجماعات الإرهابية، فإنه من الممكن ان تحدث أعمال إرهابية في إطار حركات التحرر الوطني، تماما مثلما ترتكب بعض الدول أعمالا إرهابية أثناء الحروب النظامية.
إن إرتكاب الدول لهذه الأعمال الإرهابية، لا يعني التبرير لحركات التحرر الوطني باستخدام هذه الوسائل، بل يتعين عليها أن تعلم بان لها حقوقا، وعليها التزامات، أهمها مراعاة القواعد العامة في القانون الدولي الإنساني زمن المنازعات المسلحة وبخاصة عدم ضرب المدنيين([34])،
لأن الإمعان في ارتكاب هذه الأعمال وتكرارها قد يتسبب في إضفاء صفة الإرهاب عليها، كذلك يتعين عليها أن تقوم بأعمالها المسلحة داخل إقليمها وليس خارجه([35])، أما نضالها بالوسائل السلمية، من أجل توعية الرأي العام الدولي ونشر الدعاية لأهدافها التحررية خارج إقليمها، فهي أمور مباحة، ومشروعة في القانون الدولي.
نخلص من عرضنا السابق إلى أن هناك فرقا واضحا في إطار القانون الدولي، بين الإرهاب والكفاح المسلح من قبل حركات التحرر الوطني وصولا إلى حق تقرير المصير([36])، بل إن الفقهاء اعتبروا خرق حق تقرير المصير وعدم المحافظة عليه جريمة دولية، بل أنه أصبح قاعدة آمرة Jus Cognes في القانون الدولي([37])، وذلك لأن كفاح هذه الحركات ضد السيطرة الأجنبية والقوى الاستعمارية التي تنكر حقها في تقرير المصير أصبح مشروعا (Legitimate) أو عادلا (Just)، وهو ما يعني بمفهوم المخالفة أن فعل الطرف الآخر يكون غير عادل (Unjust)([38]).
ويجدر بنا في ختام هذا المبحث ان نشير إلى أن الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب قد وضعت حدا فاصلا، بين أعمال الكفاح المشروع ضد الاحتلال الأجنبي من أجل التحرير وتقرير المصير، والأعمال الإرهابية، حيث جاء في الفقرة (أ) من المادة الثانية من الاتفاقية: "إن حالات الكفاح المشروع ضد الاحتلال الأجنبي من اجل التحرير وتقرير المصير لا يعد من الجرائم الإرهابية وفقا لمبادىء القانون الدولي".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المرجع السابق، ص162.
[2] لقد تزامن مع كتابة هذا المبحث وقوع الاعتداءات الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 11/أيلول/2001م، التي فاقت في دقتها وجسامتها ونتائجها كل ما هو متعارف عليه في الإرهاب الدولي، بصوره المتعددة، مما فتح الباب واسعا على مصراعيه لمحاربة هذه الظاهرة على المستوى الدولي، المتمثل في سعي الولايات المتحدة الأمريكية لتشكيل تحالف دولي واسع لمحاربة الظاهرة الإرهابية الجديدة "إرهاب القرن الحادي والعشرين"، وقد تم تشكيل هذا التحالف فعلا من تسع وعشرون دولة.
[3] شعبان، إبراهيم محمد، الانتفاضة الفلسطينية في عامها الأول دراسة في ضوء أحكام، القانون الدولي العام، القدس سنة 1989. ص105.
[4] هناك دراسة تفصيلية لموقف بعض التشريعات الداخلية في معالجة الإرهاب، وخاصة في ألمانيا، هولندا، سويسرا، بريطانيا، بلجيكا ومصر في رسالة محب الدين، محمد مؤنس، الإرهاب في القانون الجنائي، ص304-337.
[5] أبو اسخيلة، محمد عبد العزيز، الفوارق القانونية والسياسية بين مفهومي حق الشعوب في الكفاح المسلح من أجل تقرير المصير والإرهاب الدولي، مؤتمر اتحاد المحامين العرب السادس عشر المنعقد في الكويت سنة 1987م كتاب أبحاث المؤتمر، الجزء الثاني ص606-607.
[6] المرجع السابق، ص607.
[7] المرجع سابق، ص607.
[8] عبد الخالق، محمد عبد المنعم، الجرائم الدولية، دراسة تأصيلية للجرائم ضد الإنسانية والسلام، وجرائم الحرب، طبعة أولى سنة 1989م، ص107.
[9] أبو سخيلة، محمد عبد العزيز، الفوارق القانونية والسياسة بين مفهومي حق الشعوب في الكفاح المسلح من أجل تقرير المصير والإرهاب الدولي، ص 608.
[10] عامر، صلاح الدين، المقاومة الشعبية المسلحة في القانون الدولي، ص 492.
[11]
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire