خطاب سيادة الرئيس زين العابدين بن علي بمناسبة الاحتفال بمائويّة المحاماة بتونس
قرطاج، 27 مارس 1998
بسم الله الرحمان الرحيم
ضيوفنا الكرام،
أيّها السادة والسيدات،
إنّه من دواعي الاعتزاز أن نحتفل اليوم بذكرى مرور مائة سنة على قيام مهنة المحاماة في بلادنا. وإذ أهنئ أسرة المحامين وأسرة القضاء بمكوناتها الواسعة بهذه المناسبة التي ترمز إلى عراقة انخراط المجتمع التونسي في الحداثة وإلى ما شهده من تطور منذ قيام حركة الإصلاح في أواسط القرن التاسع عشر فإنّي أرحّب بضيوف تونس الكرام من الدول الشقيقة والصديقة ومن مختلف المدارس والمشارب القانونيّة ومن بين الأساتذة الأجانب الذين انتموا في شبابهم إلى سلك المحاماة في بلادنا متمنيا للجميع إقامة طيبة على أرض تونس وكل التوفيق والنجاح في أعمالهم.
كما أعرب عن عميق تقديري للدور المتميّز الذي تضطلع به هذه المهنة النبيلة من أجل خدمة العدل والإنصاف ودعم التوازن في المجتمع ومناعة دول القانوني، فــ ” العدل - كما قال ابن خلدون - أساس العمران “ .
ويسعدني في هذا الجمع المتميز أن أخص بالترحيب كلا من السادة فاروق أبو عيسى، الأمين العام لاتحاد المحامين العرب، وداسموند فارناندو، رئيس الجمعية الدولية للمحاماة، وبارنار كاهان، رئيس الاتحاد الدولي للمحامين، مكبرا الدور المتميز الذي تقوم به المنظمات الثلاث خدمة للمهنة ودعما للتواصل والتعاون بين أعضاء أسرة المحاماة على المستوى العربي والعالمي.
كما أوجّه التحية للسيدين جاك توبون وروبار بلوترو صديقي تونس اللذين يحضران معنا هذا الاحتفال.
وإذ أشكر السيد عميد الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين الأستاذ عبد الوهاب الباهي على لطيف كلماته ومشاعره معربا عن تقديري للجهود التي ما فتئ يبذلها على رأس الهيئة خدمة للمهنة ودعما لإسهامها في تعزيز العدل والإنصاف فإنّي أعبّر للجميع عن امتناني للتكريم الذي نالني من خلال إهدائي ميدالية المائويّة للمحاماة واعتزازي بما يرمز إليه ذلك التكريم من تقدير.
ضيوفنا الكرام،
أيّها اسادة والسيدات،
إنّ في هذا الدور الذي يضطلع به المحامون في بلادنا تواصلا لأحد مقوّمات تاريخنا الحضاري الممتد منذ العهد النوميدي إلى اليوم مرورا بالحضارات القرطاجنية والرومانية والعربية - الإسلامية، فقد أولت كلّها للعدل والمؤسسات القضائيّة مكانة خاصة في تنظيم المجتمع وسياسة الشأن العام وكانت لعلمائها ومفكريها إسهامات متميّزة في تطوير القانون وفي تعميق الرؤى في فقه القضاء وفي آلياته.
وإذ أشير إلى ذلك فإنّي أذكّر بالدور الوطني الذي لعبه المحامون التونسيون سواء لدعم حركة الإصلاح بالبلاد طوال هذا القرن أو إبّان الحركة الوطنيّة بالدفاع عن رجالات المقاومة ومناضلي التحرير أمام المحاكم الإستعماريّة وعن حقوق العمال التونسيين وأبناء هذا الوطن من مختلف الشرائح والفئات. كما أذكر بإسهام أهل المهنة إلى جانب بقية القوى الوطنيّة في النضال من أجل الاستقلال وبناء الدولة الحديثة وإرساء مقوّمات السيادة الوطنيّة.
وقد احتفلنا في السنة الماضية بمرور أربعين سنة على تونسة القضاء وتوحيده. وهي ذكرى مهمة بالنسبة إلى تاريخ المحاماة. فقد كان نظامنا القضائي قبل الإستقلال فسيفساء من المحاكم ) المحاكم الشرعية ومحاكم الأحبار ومحاكم الحق العام التونسية والمجلس العقاري المختلط والمحاكم الفرنسيّة ( .
وكان التوحيد منعرجا حاسما بالنسبة إلى مسيرة القضاء التونسي ومنطلقا مهما لتطور مهنة المحاماة إذ كان لسان الدفاع قبل الاستقلال مشتت الأصناف. فتمّ منذ البداية توحيد سلك المحامين وأصبحت المهنة بمقتضى قانون 1958 تضم كل المحامين بدون تمييز في الصفة.
وأغتنم هذه المناسبة لأثمن جهود أجيال المحامين الذين ساهموا خلال تلك المرحلة بكل جد في كسب رهان توحيد القضاء والمحاماة وتونستها وإرساء جهاز قضاء وطني عصري نعتبره مقوما أساسيا من مقومات النظام الجمهوري.
كما أحيّي دور المحامي التونسي في إرساء دعائم الدولة الحديثة وانخراطه الواعي في المسيرة التي تشهدها البلاد منذ التغيير سنة 1987 والتفافه حول خياراتها الحضاريّة وحماسه لإنجازاتها ودعمه لمكاسبها.
ضيوفنا الكرام،
أيّها السادة والسيدات،
لقد حرصنا منذ التحوّل على تكريس سلطان القانون ومقاومة الظلم والقهر والفوضى ومختلف أشكال التسيب واستغلال النفوذ أو النيل من مكاسب المجموعة. فأعدنا للقضاء مكانته ليضطلع بوظيفته الحضاريّة والاجتماعيّة النبيلة.
وبادرنا بإزالة المحاكم الإستثنائيّة والوكالة العامة للجمهوريّة منذ الأيام الأولى للتغيير مؤكّدين بذلك عزمنا الراسخ على ضمان استقلال القضاء وتكريس حق المواطن في قضاء محايد انطلاقا من حرصنا على حماية حقوق الإنسان وتطويرها ونشر ثقافتها.
إنّ صيانة كرامة كل المواطنين وضمان حقوقهم في النص وفي الممارسة وخاصة حقهم في التقاضي وفي محاكمة عادلة ومنصفة من ثوابت التغيير. وهي من المبادئ التي لا تقبل الإنحراف عنها من أي طرف كان لأنّها الدعامة الأساسيّة لعلوية القانون واستقلال القضاء.
وإنّ للمحامي دورا متميّزا في الحفاظ على هذه المكاسب ودعمها ومهمّة نبيلة في تكريس تلك المبادئ على مستوى الممارسة.
وقد أجرينا منذ التحوّل إصلاحات عميقة شملت كافة الميادين وخاصة منها ما يتصل بتطوير المؤسسات وسنّ التشريعات وإحكام الإجراءات والعناية بكل الفئات.
وسعينا باستمرار إلى تقريب القضاء من المتقاضين بإحداث عديد المحاكم الجديدة من مختلف الدرجات شملت كل جهات البلاد. وحذفنا معاليم نشر القضايا تكريسا لمبدإ مجانية التقاضي. ودعّمنا هذ الإجراء بإقرار الإكتفاء بالمعلوم الأدنى عند تسجيل الأحكام لتصبح قابلة للتنفيذ حرصا على إيصال الحقوق إلى أصحابها بأيسر السبل.
كما عملنا على تطوير التشريع بمختلف أصنافه ليواكب تطور المسيرة التنمويّة للبلاد في كنف ضمان الحريات والحقوق وصيانتها.
وتمت مراجعة مختلف التشريعات والمجالات القانونيّة لتطعيمها بمبادئ حقوق الإنسان وبما استقر عليه الضمير العالمي من قيم كونيّة. من ذلك إلغاء عقوبات الأشغال الشاقة والتشغيل الإصلاحي والخدمة المدنية لنيلها من كرامة الفرد وتنافيها مع العهد الدولي للحقوق المدنيّة والسياسيّة الذي صادقت عليه تونس. كما تمّ تنظيم الإحتفاظ والإيقاف التحفظي لأوّل مرة ومراجعة إجراءات استرداد الحقوق واعتماد نظام الآلية في ذلك بمجرد مرور فترة زمنيّة يحدّدها القانون وفق نوعيّة الجريمة لتمكين المحكوم عليهم من الإندماج في الحياة الاجتماعيّة.
وإذ حقّقت بلادنا خطوات مهمّة على درب الإصلاح الشامل والنّهضة الإقتصاديّة وانخرطت في المنظومة العالميّة الناشئة وانطلقت في برنامج واسع لتأهيل المؤسسات الإقتصاديّة ومحيطها على إثر إبرام عقد الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 فإنّنا بادرنا بسنّ عديد التشريعات المتطوّرة التي دخل معظمها حيز التطبيق مثل قانون انقاذ المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية وقانون السجل التجاري وقانون الدوائر التجاريّة، وبلغ بعضها الآخر مراحل متقدّمة في الإعداد مثل مجلة الشركات التجاريّة ومجلة القانون الدولي الخاص.
ضيوفنا الكرام،
أيّها السادة والسيدات،
إنّ الإرتقاء بتونس إلى مصاف البلدان المتقدّمة والدخول بها إلى القرن الحادي والعشرين بحظوظ وافرة للإنصهار الفاعل في منظومة عالميّة اقتصاديّة وتكنولوجية جديدة يستدعي من الجميع البذل والمثابرة. وبعد أن وفرت الدولة في فترة وجيزة أسباب النّقلة النّوعية المنشودة وطوّرت توزيع الأدوار بين الدولة والمجتمع المدني فإنّ على مختلف مكوّنات المجتمع المدني أن تكون في المقدّمة للإسهام في هذه الثورة الهادئة وفي تحرير الطاقات الحيّة ونشر ثقافة الإمتياز والمبادرة فهي مفتاح إلى المستقبل.
وإنّ للمهن الحرّة دورا كبيرا في استباق التحوّلات التي يشهدها العالم والاستعداد للتغيير العميق الذي يفرضه الواقع الجديد بدون التنكّر لخصوصياتها أو لثوابت المجتمع وطموحاته.
ونحن نعتبر أنّ مهنة المحاماة تحتل مكانة متقدّمة في منظومة هذه المهن نظرا لما تكتسيه من أبعاد تشمل الدفاع عن الحرية والذود عن الحقوق، وبناء على تقاليدها القائمة على مبادئ الثقة والإلتزام بأخلاقيات تجعل من المحافظة على مصالح الحريف واجبا مقدّسا ولما يميّز هذه المهنة من استقلاليّة.
ولا يفوتني أن أذكر في هذا المجال بأنّنا عند مراجعة القانون المتعلق بالمحاماة سنة 1989 أدرجنا لأوّل مرّة أحكاما صريحة تنص على استقلاليّة هذه المهنة مؤكّدين بذلك غايتها السامية في المساعدة على إقامة العدل.
ولكن ذلك لا يجب أن يحجب عنّا واقعا جديدا غير خاف عن كل ذي عقل يرفض الانغلاق في قوالب بالية. فمهنتكم العريقة التي كانت في مأمن من المنافسة بحكم دورها الخصوصي أصبحت اليوم تجابه قانون السوق من جراء العولمة.
وإنّ في برنامج احتفالكم بالمائويّة من المحاور ما يشير إلى عمق وعيكم بالتحديات الجديدة والرهانات التي تطرحها، حيث خصّصتهم أحد تلك المحاور لندوة علميّة حول مستقبل المحاماة يتباحث خلالها محامون من تونس والبلدان الشقيقة والصديقة حول هذا الموضوع المصيري. وهو ما يشير إلى أنّ نزعة المحافظة أو الإنغلاق لا تسيطر على المحامين وخاصة على الهياكل الممثلة لهم وأنّ بعض الأصوات التي تقف أحيانا في وجه كل مستحدث أو جديد لا تعبّر عن الطموحات الحقيقيّة لأهل المهنة.
إنّ فتح الحدود بقدر ما يضع أمامكم من رهانات وتحديات يتيح لكم كذلك فرصا جديدة لا بدّ من استغلالها للإرتقاء بالمهنة إلى أرفع الدرجات.
وما مبادرة الحكومة بتقديم مشروع قانون لوضع إطار إضافي لممارسة مهنة المحاماة ضمن شركات مهنيّة إلاّ لتمكين المحاماة التونسيّة من الآليات الضروريّة للنهوض بالمهنة والاستجابة لنوع جديد من الطلب يحتاج إلى تعدد الإختصاصات وتكاملها. والضرورة تقتضي اليوم أن يكون إلى جانب المكاتب الفردية شركات للمحامين بما يفتح أمام المهنة بكافة مكوّناتها آفاقا رحبة للعمل وإسداء الخدمات ويحدث حركيّة جديدة سواء على الصعيد الوطني أو خارج الحدود ويشجع الطاقات الشابة.
وإنّ الدولة ستعمل على مواصلة القيام بالإصلاحات الضروريّة لتطوير مهنة المحاماة وجعلها مواكبة للعصر.
إنّ المحامين في تونس نخبة نعوّل عليها في سبيل كسب معركة التنمية الشاملة التي نخوضها جميعا كل من موقعه بكل ثقة وعزم.
ضيوفنا الكرام،
أيّها السادة والسيدات،
لقد أصبح من الضرورات الملحّة أن يتعمّق المحامون في المجالات القانونيّة المستحدثة والإختصاصات المتطوّرة لمواكبة التحوّلات على المستوى الوطني والعالمي وليتمكّن المحامي التونسي من تحقيق الإمتياز وكسب رهان المنافسة.
إنّ تطوّر المجتمعات يصحبه حتما تغير في الأدوار والوظائف التي تضطلع بها مختلف مكوّناتها وتحولات في العلاقات التي تربط بينها، وهو ما يحكم على مختلف تلك المكونات بالتطور حتّى لا تتخلّف عن المسيرة الإجتماعيّة ويستدعي من النخب عميق الوعي والقدرة على التفاعل الناجع مع مختلف مراحل تلك المسيرة.
ونحن نعتبر أنّ المهنة مدعوّة إلى أن تكون من بين قوى التقدّم والتطور لتتجاوز أدوارها التقليديّة بعقل متوثب إلى المستقبل يرفض الإنغلاق في نظرة لم يعد بإمكانها استيعاب مقتضيات العولمة وانعكاسات تفتّح المجتمعات على بعضها البعض وتشابك العلاقات والمعاملات بين مختلف أطراف العالم.
وإنّ ذلك يستدعي تعهّد التدريس الجامعي والتكوين الأساسي للمحامين بالتطوير والتحيين المستمر. وإذ أشير إلى ذلك فإنّي أدعو أسرة المحامين إلى تكثيف وسائل الإطلاع والبحث والتبادل العلمي في مجالات اهتمامهم سواء عبر استغلال ما تتيحه شبكات الاتصال الحديثة التي انخرطت فيها بلادنا أو بتنظيم الندوات واللقاءات العلميّة على المستوى الوطني والدولي للارتقاء بكفاءة المحامي التونسي وقدراته إلى أرفع الدرجات.
إنّ هذه النخبة التي نعتز بها والتي يناهز عدد أفرادها اليوم 2400 أصبحت المرأة تحتل فيها مكانة متميّزة حيث يقارب عدد امحاميات 300 ومثلهن في سلك القضاء. وهو مما يجسّم مدى ما بلغته المرأة التونسيّة من نضج وتطوّر بفضل المكاسب التي تحقّقت لها فمكّنتها من احتلال مواقع متقدّمة في كل الميادين والقطاعات.
وإنّ أسرة المحامين التونسيين ما فتئت تتعزّز من سنة إلى أخرى بالطاقات الشابة رجالا ونساء، ونحن ندعو إلى الحرص على أحكام تأطيرهم وتدريبهم للتمرّس على تقنيات المهنة والتشبّع بأخلاقياتها وسلوكياتها بأفضل الوجوه.
وإذ أؤكّد ذلك فإنّي أنتهز الفرصة لأهنئ مجدّدا الأستاذتين سنية بن حدود وسميرالدريدي بالتكريم الخاص الذي نالهما من خلال جائزة أحسن محاضرة تمرين لسنة 1997 والتي أردنا بها تشجيع كل من يبذل الجهد من المحامين الشبان لحفزهم على التألق والإمتياز.
ضيوفنا الكرام،
أيّها السادة والسيدات،
إنّ الإرتقاء بالوطن إلى أعلى مراتب التقدّم وتحقيق الازدهار في كنف الأمان والإستقرار والتضامن بين مختلف مكوّنات هذا الشعب مسؤولية الجميع أفرادا وجماعات مهما اختلفت المواقع.
ونحن واثقون من أنّ المحامين التونسيين رجالا ونساء سيكونون مثلما كانوا دائما إلى جانب بقية النخب الوطنيّة من العاملين بكل صدق ووعي ووطنيّة من أجل تحقيق تلك الأهداف النبيلة.
وإذ أجدد الترحيب بضيوفنا الكرام والتهاني بهذه الذكرى لكافة أسرة المحاماة فإنّي أتمنّى للجميع مزيد التوفيق والنجاح خدمة لتونس وإعلاء لشأنها بين الأمم.
والسلام عليكم ورحمة اله وبركاته.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire